مارسيل خليفة في قرطاج 2018: ضلالة البدعة
|بقلم: حمزة عمر
لم تكن تجربتي مع حفلات مارسيل خليفة ممّا يشجّعني على إعادة حضورها. لولا إلحاح زوجتي، التي تحمل تلك الصورة القديمة عن ذلك الفنّان الملتزم الذي يغني للثورة والحرية، لم أكن لأحضر. وللأسف، كنت محقّا. ما لمسته في 2009 كان موجودا في 2018، وبشكل أكثر عمقا.
يأتي الجمهور إلى مارسيل خليفة عموما لسبب واضح: أن يستعيد ماضي الأغاني الملتزمة. يأتي وهو يريد أن يسمع “منتصب القامة” و”جفرا” و”تصبحون على وطن” ويصرخ معها ويفرغ شيئا من شحنة الثورية التي فيه. لكن ما صار يحدث في السنوات الأخيرة أنّه إمّا إن يستمع إليها في نسخ مشوّهة لا علاقة لها البتّة بالأصل، وإمّا أن يستمع إلى غيرها ممّا لا علاقة له بالطابع المميّز لهذا الفنّان. تحوّلت “كانت الحلواية” إلى ما يشبه أغنية روك سريعة النسق، شاحبة الروح. أمّا “جواز السفر” فأضحت استعراض “صولو” للبيانو تارة وللإيقاع طورا، ودون مشاركة، لمدّة طويلة، من الفنّان الذي جاء الجميع لأجله. كان الأمر تنافرا مزعجا للأذن، “كاكوفونيا” غريبة. أفضل فترات الحفل كانت لمّا بقي مارسيل بمفرده على الركح، فعزف وغنّى “أحنّ إلى خبز أمّي”. كانت تلك هي اللحظات الوحيدة التي عدنا فيها إلى المنبع ونهلنا من صفائه.
التجديد أمر محمود، لكنّه يتحوّل إلى بدعة ضلالية تقدّم روح الأغاني الجميلة قربانا على مذبح “إعادة التوزيع” و”التجريب”. وفي الحقيقة، كُشفت النوايا المبيّتة منذ اللحظة الأولى: تقتصر الفرقة على العود (على الأقل هناك شيء من الثوابت) وبيانو و”بطّارية” إيقاع. ما أبعد هذه التركيبة عن فرقة الميادين ! لم يكن التجديد موفّقا إلّا في “Requiem for Beirut” التي أبدع فيها رامي خليفة في عزفه المنفرد على البيانو. لكنّه في ماعدا ذلك، كان مفروضا فرضا على جوّ لا يناسبه بالمرّة. هو شاب موهوب، لكن لامكان له في العالم الذي نحته أبوه والذي أحبّه الجميع من أجله. بإمكانه أن يصنع مشواره الخاص بعيدا عن هاجس التوريث (وكم نعاني من التوريث !)
حتّى في تعامله مع الجمهور، لم يكن مارسيل خليفة نفسه. أسرف في تغذية نرجسية الجمهور، على نمط فنّاني “بلدي التاني”، وتحدّث أكثر ممّا ينبغي، وكاد الأمر يتحوّل أحيانا إلى محادثات ثنائية مع من كانوا يتصايحون من هنا وهناك. وبدا مزهوا بترديد الجمهور لأغانيه، حتى بدا أنّه تخلّى عن دوره في الغناء.
عادت زوجتي بنفس قناعتي. “لن أحضر حفلا آخر لمارسيل !”