ما محل الأمازيغية من الاعراب ؟
|بقلم: أمين الزقرني
لا يكنّ المثقفون ولا عامة الشعوب المغاربية عموما والتونسيون خصوصا ودا للأمازيغية، باستثناء أولئك المنتمين الى الحركة الأمازيغية، وهم قلة. فعندما لا يعادونها بشكل صريح ومكشوف، فإنهم في أحسن الأحوال يتجاهلونها ولا يساندون مطالبها.
هذا الموقف السلبي من الأمازيغية هو متداخل مع موقف الدول المغاربية وسياساتها. وهو موقف قد لا يُستغرب مأتاه من عموم الناس، ولكنه غير منتظر من “المثقفين”، الذين يفترض اطلاعهم على المعطيات التاريخية والحضارية.
يأتي هذا الموقف السلبي في شكل مغالطات كلما طرحت مسألة الهوية الأمازيغية. أولها ذو طابع ديني معناه أننا كمسلمين لا فائدة من إثارة هذه التفرقة والفتن والنقاشات البيزنطية لأن الله سيحاسبك على صالح أعمالك في النهاية ولا فرق لعربي على أعجمي الا بالتقوى. ولكن هل يعني اتباع دين ما التخلي عن العادات واللغة والهوية الذاتية؟ هناك العديد من الأمثلة لشعوب اعتنقت ديانات مختلفة ولكنها حافظت على هويتها وثقافتها، من ذلك إيران وتركيا وإندونيسيا وباكستان في العالم الإسلامي.
نفس هذه المغالطة يعاد تركيبها بصيغة القومية. وهي تفيد أنه لو تجمع العرب سيمثلون قوة تضاهي قوة الاتحاد الأوروبي وأنه بدل البحث في الأصول العرقية وأسباب التفرقة فإنه أولى بنا أن نعمل على إزالة كل ما يعيقنا على تحقيق هذا الاتحاد. طبعا بغض النظر على أن الاتحاد الأوروبي هو اتحاد اقتصادي سياسي لا أثر فيه لطمس هوية وتاريخ ولغة شعب أو منطقة على حساب الأخرى، فإن العرب تاريخيا لا أثر لحضارة لهم في شمال افريقيا حسب ابن خلدون الذي قال فيهم: “العرب أهل نهب وعبث … وليست لهم عناية بالأحكام وزجر الناس عن المفاسد، وأنهم أبعد الناس عن العلوم والصناعات…و انظر إلى ما ملكوه وتغلبوا عليه من الأوطان من لدن الخليقة كيف تقوض عمرانه أقفر ساكنه وبدلت الأرض فيه غير الأرض فاليمن قرارهم خراب إلا قليلا من الأمصار وعراق العرب كذلك قد خرب عمرانه الذي كان للفرس أجمع والشام لهذا العهد كذلك وأفريقية والمغرب لما جاز إليها بنو هلال وبنو سليم منذ أول المائة الخامسة وتمرسوا بها لثلاثمائة وخمسين من السنين قد لحق بها وعادت بسائطه خرابا كلها بعد أن كان ما بين السودان والبحر الرومي كله عمرانا تشهد بذلك آثار العمران فيه من المعالم وتماثيل البناء وشواهد القرى والمدر.” ( إبن خلدون ـ المقدمة)
ويطول ذم ابن خلدون لطبائع العرب وآثارهم قائلا:”العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم فصار لهم خلقا وجبلة وكان عندهم ملذوذا لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتغلب وذلك مناقض للسكون الذي به العمرا ومناف له” (إبن خلدون ـ كتاب المقدمة).
وهذا ما يثبته كذلك لنا الواقع الى اليوم. فالدول العربية كالسعودية وقطر والامارات لم تقدم للعالم سوى البنايات الشاهقة الاستعراضية واشتراء الفرق واللاعبين والمباريات بأسعار خيالية والتطبيق الديني المتشدد واقتناء الأسلحة لمواجهة خصومها العقائديين. وإذا استثنينا المعلقات -والتي يعزو البعض ظهورها الى العهد العباسي حيث ساهم الفرس الى حد كبير في تطور الكتابات الأدبية والعلمية، و”جمالية” اللغة لارتباطها بتقديس القرآن -والتي كان أئمة هذه اللغة أنفسهم ليسوا عرباً، مثل سيبويه وابن جني وأحمد بن فارس وأبو علي الفارسي والزمخشري، فإن العرب اختفت بصمتهم الحضارية ولم يضيفوا منذ ذلك الحين سوى الغزو والسبي وبيع النفط في العهد الحديث. حتى أن تجارة الرق في هذه البلدان العربية بقيت على حالها الى ستينات القرن الماضي ولم يتم الغاؤها الا تحت ضغوط دولية.
وفي نفس إطار هذه المغالطة أيضا تشيطن الحركة الأمازيغية كما لو أنها حركة انفصالية تسعى الى تقسيم البلاد والوطن. وهذا طبعا مخالف للواقع لأن التاريخ والهوية والأرض التي دافع عنها ماسينيسا ويوغرطا وتاكفاريناس وديهيا وغيرهم من القادة الأمازيغ عامل اعتزاز وانتماء وطني. وهو ما سعى بورقيبة إلى الاشارة إليه، فكان يفخر بأنه في نضاله ضد فرنسا هو شبيه “يوغورطا المنتصر” ضد روما.
المغالطة الثانية هي أن الأمازيغيين هم الآن أقلية ولا مكان لطرح هذا الموضوع الا من باب احترام الأقليات لا أكثر. في الواقع فإن الجينات المهيمنة بنسبة تساوي وتفوق ال90 بالمائة في كل من تونس والمغرب مثلا هي E1b1b1b -M81، وهي جينات خاصة بأمازيغ شمال افريقيا. حتى الخصائص المورفولوجية وملامح الوجه هي مشتركة في سكان شمال افريقيا وتسمى بالنوع البربريد. فاذا كان هناك من أقلية، فهم ذوي الأصول العربية. هذا إن صحت هذه الأصول العربية، لأنه وحسب آخر دراسة للتوسعات البشرية نحو غرب أسيا بعد العصر الجليدي الأخير، فإن توقيت دخول سلالة ج1 لشمال افريقيا، وهي السلالة التي يتشارك فيها العرب مع الأمازيغ، كان أقدم بـ900 سنة من توقيت دخولها للجزيرة العربية. أي أن فرضية امتلاك العرب لسلالة معينة دخلوا بها لشمال أفريقيا عن طريق الهجرات اليمانية القيسية المعروفة بتغريبة بني هلال وبني سليم وبني معقل أبان العصر الفاطمي وما بعده، هي فرضية ضعيفة.
تأتي المغالطة الموالية بأننا حتى لو سلمنا بأصولنا الجينية -وهي حقيقة علمية لا يهم أسلّمنا نحن بها أم لا- فإننا لا يمكن أن ننفي ألقابنا العربية وثقافتنا ولغتنا العربية الى غير ذلك مما يشير الى اصطلاحنا الانتماء العربي. وهنا لا بد من التوضيح أن التعريب المدمّر للأمازيغية بدأه بشمال إفريقيا ليس العرب كما هو شائع بل بدأه ومارسه الأجداد الأمازيغ عندما تخلى العديد منهم عن انتمائهم الأمازيغي ولغتهم الأمازيغية رغبة منهم لأسباب دينية وسياسية واجتماعية في التحوّل إلى عرب.
ولتحقيق هذا الهدف التعريبي التحويلي انتحلوا النسب العربي حتى تكون لهم أصول عرقية عربية مثل العرب الحقيقيين وصنعوا ما اعتبروه لغة عربية حتى يظهروا كمتحدثين بالعربية كما يفعل العرب الحقيقيون. هذه العربية هي ما نسميه الدارجة والتي هي لغة تتشكل من معجم عربي لكن بمعان وتراكيب أمازيغية، تدل على أن روح الدارجة هو أمازيغي الأصل. ولا يتسع المجال هنا لتعداد المفردات التي ظلت عالقة في دارجتنا من اللغة الأمازيغية. بل أكثر من ذلك، فإن هذا التعريب الطوعي لم يقطع مع الثقافة والطقوس في الاحتفالات والأعياد والملابس والأكلات والمعمار والوشم، ولم يغير أسماء المدن وألقاب العائلات والقبائل، وهي في معظمها ذات معاني وتراكيب أمازيغية.
هذا التعريب في شكله التحويلي سيتوسع وينمو ويتطور مع مرور الأيام وسيتوارث جيلا بعد جيل إلى أن أصبح الملايين من المغاربيين يعتقدون أنهم عرب لأنهم ينتمون إلى أسر ذات نسب عربي- مع أن هذا النسب اختلقه أجدادهم الأمازيغ- ويتكلمون ما يظنونه لغة عربية (الدارجة) مع أن هذه “العربية” صنعها الأمازيغ وليس العرب الحقيقيون.
ثم جاءت دولة الاستقلال فجعلت من التعريب -الذي كان قبل ذلك اختياريا ومقصورا على أشخاص وعائلات وقبائل- ممارسة إجبارية وقضية تهم كل الشعب، وذلك عندما تبنّته كسياسة عمومية للدولة تعبئ لها كل مواردها وترصد لها ميزانية ضخمة من المال العام.
فإذا كانت “سياسة التعريب والفرنسة” التي نهجتها الدولة منذ الاستقلال وما زالت تنهجها إلى اليوم قد أدت إلى تراجع ضخم في نسبة الناطقين بالأمازيغية وتآكل استخدام الأمازيغية لدى من لا زالوا يتحدثونها فإن هنالك سببا آخر يعادل “سياسة التعريب والفرنسة” في الخطورة وهو نزوع الملايين من الناطقين بالأمازيغية إلى التخلي الطوعي عن الدارجة بمفرداتها الأمازيغية وعن اللغة الأمازيغية ككل أو عن جزء كبير من كلماتها الأساسية اليومية واستبدالها بكلمات أخرى عربية أو فرنسية. وهذا السلوك اللاأمازيغي يندرج في خانة سلوكيات عملية الصعود الاجتماعي و”تحسين الوضعية” التي ينخرط فيها عامة الناس.
فالمغاربي عموما والتونسي خصوصا يحرص عادة على أن يبرهن في كلامه أنه “قاري ومتثقف” ليرفع مكانته الرمزية لدى الناس وليرفع احتمالية حصوله على عمل أو منفعة أخرى تحسن من وضعه الاجتماعي. لذلك يكثر من الكلمات الأجنبية والمدرسية والاعلامية في كلامه رغم أن الكلمات المحلية الأصيلة متوفرة ومفهومة للجميع. الناطق بالدارجة يقحم كلمات عربية فصحى وفرنسية وانكليزية في كلامه لكي يبرهن أنه متعلم وذو مستوى ثقافي. ويتجنب الكلمات الدارجة “الشلحة” أو “الشعبية” من أجل إبعاد شبهة البداوة عن نفسه، ليساير الموضة السائدة وليبرهن للناس أنه متعلم وغير بدوي.
وما نسميه اصطلاح الانتماء العربي يكون في الغالب لتحقيق منافع سياسية أو اجتماعية أو دينية. وهو لا يختلف عن اصطلاح الانتماء الى الثقافة الفرنسية أو أي ثقافة أخرى غازية. ولا فرق لاستعمار على آخر بطول مدته أو بالمنافع الناتجة من الانتماء إليه حتى نفاضل الاستعمار العربي على الاستعمار الفرنسي مثلا أو الاستعمار الروماني أو التركي.
ولهذا فلا يمكن أن تتقدم القضية الأمازيغية كثيرا إلى الأمام إلا إذا دعمها المثقفون وتبنوا مطالبها. وهو ما يشترط استعادتهم للوعي بهويتهم الأمازيغية التي هي هوية جميع المغاربيين سواء كانوا ناطقين بالأمازيغية أو الدارجة.