تونس تحتاج سقراطها
|[et_pb_section admin_label=”section” fullwidth=”off” specialty=”on”][et_pb_column type=”3_4″ specialty_columns=”3″][et_pb_row_inner admin_label=”row_inner”][et_pb_column_inner type=”4_4″ saved_specialty_column_type=”3_4″][et_pb_text admin_label=”النص”]
بقلم: حمزة عمر
كل شيء نسبي في تونس اليوم. الفساد أصبح، كالخيانة، وجهة نظر تجد من يبررّها وينظّر لها، دون أن ينكر ذلك أحد إلّا من قبل من يرغب بدوره في نصيبه من الغنيمة، حتّى قيل أنّ الثورة لم تفعل سوى أن أخرجت الفساد من احتكار طغمة بعينها حتّى يصير حقّا مشاعا للجميع. وقد وصل الأمر إلى حدّ أنّنا سمعنا نائبا في مجلس نوّاب الشعب يطالب الدولة بغضّ الطرف عن صغار المهرّبين حتّى يتمكّنوا من ممارسة عملهم دون إزعاج !
حتّى الدين، مصدر الأخلاق الأساسي في مجتمعنا، لم يعد ضمانة كافية. قد تجد من تتوفّر فيه شكليّا العديد من مظاهر التديّن (اللحية، زبيبة الصلاة، الخمار، النقاب…) ومن يؤدّي جميع الطقوس الدينية من صلاة وزكاة وصوم بتفان، ورغم ذلك لا يمتنع من الكذب والغشّ والخداع والغيبة والنميمة… ويبدو أنّ هذا التناقض بين الجانب الطقوسي والجانب السلوكي ليس بالجديد على مجتمعنا، إذ نجد آثاره في أمثال شعبية من طينة “أعمل الفرض وانقب الأرض”. لكن أخال أنّ هناك وعيا أكبر بهذه التناقض أخذ ينمو، إذ يبدو أنّ التونسيين لم يعودوا يثقون كثيرا أنّ الأحزاب ذات المرجعية الدينية هي بالضرورة الأكثر استقامة أخلاقيا.
ومن الأكيد أنّ هذه النسبية في التعامل ليست جديدة، غير أنّها أصبحت أكثر وضوحا بعد الثورة. قد يعود ذلك إلى أنّه قبل 2011، لم يكن من المسموح أن تسود في المجتمع غير حقيقة واحدة، هي تلك التي يرسمها النظام وينضبط لها الجميع، إمّا خوفا وإمّا طمعا أو مزيجا من الاثنين. أمّا اليوم، فقد انفرط ذلك العقد فانفجرت الحقيقة، وأصبحت ملكا مزعوما لكلّ من يتكلّم بها: الكلّ يزعم أنه ينطق عنها وأنّ غير ذلك ليس سوى خبط عشواء. الكلّ يسعى إلى الترويج لنفسه بأّيّ ثمن، ويقسم الأيمان المغلظة، ثمّ لا يبالي بعد أن يستوي على كرسيه بمآل المحتاجين، الذين زاد الوضع الاقتصادي في عددهم، بعد أن اطمأنّوا إلى وعوده البرّاقة. الكلّ يبحث من جهته عن تدبير منافعه الذاتية دون حدود تذكر، وحتّى إن انكشف له سعي غير مشروع، فلن يعدم وسيلة لتبريره، أو قد لا يبالي بتبريره البتّة. أو لم نشهد بعد الثورة صعودا عجيبا لرجال أعمال يحرصون على لعب دور بارز في السياسة والاقتصاد دون أن ندري شيئا عن مصدر ثرواتهم المتكدّسة؟
يتشابه ذلك بشكل لافت مع ما آلت إليه الديمقراطية في مدينة أثينا في القرن الرابع قبل الميلاد. فبعد فترة من الرخاء، صاحب انهيار الأمبراطورية الأثينية تغيير في التركيبة الديمغرافية لمواطني المدينة، ليزداد عدد الفقراء منهم على نحو لافت. وترافق ذلك مع انفتاح الولوج إلى المناصب العمومية دون تمييز. أصبحت الطبقات الدنيا في السلّم الاجتماعي للمواطنين هدفا للحملات الدعائية للطبقات الأعلى، وسادت المحاججة الديماغوجية بشكل كبير، ممّا جعل الجماهير سريعة التأثّر تنساق إلى اتّخاذ قرارات متسرّعة في العديد من الأحيان.
وفي ذلك المناخ، ظهر الفلاسفة السفسطائيون. كانت الحاجة حينئذ ملحّة إلى وجود من يقومون بتعليم الخطابة والبلاغة إلى أبناء العائلات الغنيّة حتّى يحوزوا من الفصاحة ما يخوّلهم التأثير على العامة، ولبّى السفسطائيون، الوافدون في أغلبهم من خارج أثينا، هذه الحاجة. كانوا يقومون بمهمّتهم هذه مقابل مبالغ باهظة، مكّنت بعضهم من الانتقال إلى مصاف الأغنياء. ورغم أنّ أغلبهم عرّض بالديمقراطية وسخر منها، فإنّهم كانوا من المستفيدين البارزين منها. كانوا أشبه بمستشارين في التواصل السياسي، بلغة العصر الحاضر، يبيعون “التكوينات” الكفيلة بالتأثير على الجماهير، مع وعد المشترين بالتحوّل إلى خطباء مفوّهين في أقصر الآجال. مضمون الخطاب لم يكن يهمّ، المهمّ هو الانتصار على الخصم في تلك المعركة الكلامية، وقد كان ذلك مولد الشعبوية. وانتشرت في ذلك الزمان مقولات من قبيل أنّ القانون ما هو إلّا أداة للضعفاء (كاليكليس) وأنّ العدالة لا تكون إلّا في صفّ الأقوياء (ثراسيماخوس) وأنّه ليس لشيء حقيقة في ذاته (بروتاغوراس) ليلامس جورجياس العبثية بمبادئه الثلاثة: إذ يزعم أنّه ليس هناك شيء، ولو وجد شيء، فلا يمكن إدراكه، ولو أمكن إدراكه، فلا يمكن إيصال تلك المعرفة إلى الغير.
وأمام هذا التنسيب لكلّ شيء، برز سقراط، ذلك الحكيم الذي كانت أفكاره علامة فارقة في الفكر الإنساني، حتّى أنّ تاريخ الفلسفة قُسّم إلى ما قبله وما بعده. عكس السفسطائيين، لم يطلب سقراط قطّ أجرا على تعليم الفلسفة. وعكسهم كذلك، لم يدّع يوما المعرفة بل كان امتيازه الدائم هو إقراره أنّه لا يعرف شيئا. كان يسائل كلّ شيء وكلّ أحد، حتّى ضاق به الجميع ذرعا لأنّه يسأل أكثر ممّا ينبغي. ولعلّ أبرز ما طبع فكره هو فكرة الفضيلة. فعلى عكس السفسطائيين الذين زرعوا الشكّ في كلّ ما هو أخلاقي وزعموا أنّ الحقّ والباطل نسبيان، عمل سقراط على إيجاد تعريفات واضحة لمختلف المفاهيم حتّى لا يجد خصومه شيئا من الالتباس يمكن أن يستندوا عليه لبثّ الشكّ. واعتبر سقراط أنّ عقل الإنسان يسيطر على حواسه، وأنّ القانون العادل يصدر عن ذلك العقل، وذلك ممّا يدركه المرء بالفطرة التي زرعها الإله فيه. وعدّ سقراط الفضيلة قدرة الإنسان على أن يحيا حسب عدد من المبادئ والقيم التي يمكنّه تطبيقها من أن يعيش حياة أخلاقية، أي أن يطابق خلالها عمله قناعاته. وباعتبار الوصول إلى القانون الأخلاقي الإلهي متاحا للجميع باستعمال عقولهم، فالفضيلة علم، والرذيلة جهل.
ولعلّه لم يكن من الممكن تصوّر نهاية مغايرة لسقراط. فقد أثارت طريقته في الجدل وإصراره على إطلاقية الفضيلة حنق الساسة المتمعّشين من الخطابات الجوفاء والمستفيدين مع تعدّد الحقيقة كما نظّر لها السفسطائيون، فصدر الحكم قاضيا بإعدامه. وتوفّرت لسقراط فرصة الفرار، لكنّه أبى إلّا الوفاء لنفسه. فمادام يعترف بقانون أثينا، كان لا بدّ من الإذعان له، ولو كان فيه حتفه. فتجرّع السمّ راضيا، مقضّيا الساعات الأخيرة من حيانه في التحاور مع تلاميذه.
على أنّه يبدو أنّ السفسطائية تعود إلى الظهور دائما. فبعد عصر سقراط، عادت السفسطائية إلى الظهور في القرن الثاني ثم في القرن الرابع للميلاد، وألقت بظلالها على فلسفات الزمن الحديث والمعاصر. ولعلّنا نراها في هذه النزعة السائدة في مجتمعنا اليوم إلى إيجاد تبريرات لكلّ شيء، مهما بدت واضحة منافاته لمقتضيات السلوك القويم. هذا ما يجعل البلاد اليوم نهبا لإرادات متصارعة كلّ منها يبغي تحقيق أكبر قدر من المنفعة دون مبالاة بالمصلحة العامة، حتّى نكاد نرى عيانا سير البلاد إلى الهاوية وسط النظرات اللاهية. في هذا الزمن، تزداد حاجتنا إلى سقراط جديد يعيد الاعتبار إلى الفضيلة كقيمة مطلقة تتعالى على كلّ هوى، وعلى كلّ سفسطة. ويمكن ألّا يكون هذا “السقراط” شخصا بذاته. يمكن أن يكون جماعة أو منظّمة تتسامى عن أغراض النفوس وتصدع بما تراه حقّا، دون أن تعبأ بصيحات المناوئين
[/et_pb_text][/et_pb_column_inner][/et_pb_row_inner][/et_pb_column][et_pb_column type=”1_4″][et_pb_sidebar admin_label=”Sidebar” orientation=”right” background_layout=”light” area=”sidebar-1″ remove_border=”off”] [/et_pb_sidebar][/et_pb_column][/et_pb_section]