إضراب الأطباء من أجل المناطق الداخلية
|بقلم أمين الزقرني
لن أبدأ بالحديث عن الطبيب، سأبدأ بالحديث عن النجّار: تخيّل أنك ترسل نجارا إلى الغابة بدون آلات وتطلب منه صنع غرفة نوم من أشجار الغابة، حسب رأيك، هل سيستطيع ذلك؟ ولو تمكّن من ذلك، كم سيتطلّب الأمر منه وقتا؟ للأسف يكثر رمي الكلام هذه الأيام من أشخاص لا يأخذون عناء التثبّت من المعلومات أو الانطباعات التي لديهم. وموضوع الساعة هو إجبارية العمل للأطباء.
أوّلا- القانون الذي حوله الجدل لا يتحدّث البتة عن المناطق الداخلية. هو يتحدّث عن العمل الإجباري لمدة 3 سنوات إضافية في المستشفيات العمومية قبل تسليم الشهادة. بالمناسبة فإن تونس قد أمضت على اتفاقية تمنع العمل الإجباري منذ 1962. وإصدار قانون مماثل سيؤدي إلى حرمان بلادنا من المساعدات الدولية في مجال الصحة وتوجيه إنذار لها من منظمة الشغل العالمية.
ثانيا، الأطباء الشبان المضربون هم أطباء متربصون بصدد التعلّم، وخلال الإضراب فإن المستشفيات تعالج الحالات المستعجلة كلّها –أي مثل الأيام التي لا إضراب فيها. على العكس، فإن الأطباء الاستشفائيين والجامعيين أنفسهم على عين المكان لتأمين العلاج. ما يقع تأجيله هو فقط العمليات المبرمجة، والتي هي بطبعها مؤجّلة. والآن إن كنت تعتقد أن مستشفيات تونس تعتمد على المتربصين لتسييرها، فهذا يعني أن هناك خللا في قطاع الصحة. هل يُعقل مثلا أن تسيير إدارة أو شركة أو محكمة يعتمد على متربّصيها؟ قطعا لا.
ثالثا، مستشفياتنا الجامعية تفتقر في حد ذاتها أحيانا لتجهيزات ضرورية، أو أن التجهيزات فيها مهترئة وغير صالحة. فما بالك بالمستشفيات الجهوية؟ لقد سبق وأن تم إرسال أطباء اختصاص في هذه المستشفيات، ولكنهم في حالة تجميد، لأنهم ببساطة بدون أدوات عمل. الكثير منهم قدّم استقالته، لأنه في واقع الأمر في وضع بطالة، لا يمارس مهنته. هل تعتقد أن شخصا يستمتع بعمله سيستقيل؟ طبيب الإنعاش يحتاج إلى آلات وأدوية للتخدير والتنفس، كل الاختصاصات الجراحية تحتاج إلى قاعات عمليّات ووسائل تعقيم وبنوك دم قريبة، جميع الاختصاصات الطبية تتطلّب مخابر بيولوجية ومراكز تصوير بالأشعة (من أشعة وسكانار وتصوير بالصدى) حتى يمكن فهم المرض وتقديم العلاج المناسب. ما الفائدة من إرسال أطباء بدون أدواتهم؟ للضحك على ذقون المرضى؟ لاستبلاههم؟ لوضع صحتهم في خطر؟ أم لينتهي الحال بإرسالهم إلى المستشفيات الجامعية كما هو الوضع الآن؟ فلنعلم أولا أن هناك 52 اختصاص في ميدان الطب، جميعهم معنيون بهذا القانون. في كل سنة يتخرّج حوالي 500 طبيب مختص. ولنعلم في المقابل أن المستشفيات الجهوية وعددها 23 يحتاج كل واحد فيها إلى 50 طبيب تقريبا لتسييرها أي 1150 طبيب في الجملة. تخيّل حجم المصاريف على الرواتب التي سيتكلّفها كل هذا، دون أن يكون للأطباء المبعوثين أي نجاعة. للأسف، فإن عمل الطبيب يتطلّب الفعالية في المقام الأول، خاصة مع تطور الطب في عصرنا، هو ليس سحّارا أو مشعوذا ليستفهم أسباب المرض بمجرّد ملاقاة المريض، ولا هو مرشد سياحي ليكتفي بتقديم النصيحة، خصوصا في الحالات العاجلة والحياتية.
رابعا، يعتمد الكثير في هذا الجدال حجة أن “أطباء بدون حدود” يقبلون العمل في أحلك الظروف دون التشكي في حين أن أطبائنا التونسيين يتكبّرون على العمل في المناطق المهمّشة. وهذه كذلك حجة واهية بحكم نقص المعلومة. أدعوك إلى الاطلاع على موقع “أطباء بدون حدود” على الانترنت واقرأ الصفحة الخاصة بالتنظيم والمعدّات. البعض منها غير متوفر حتى في بعض مستشفياتنا الجامعية. يتم شحن قاعات عمليات بأكملها وآلات كشف متطوّرة عبر الطائرات والبواخر، إضافة إلى فريق عمل متكامل من المتصرّف المالي إلى الكهربائي والمنظّف. مازال لدى البعض تلك الصورة المغلوطة للطبيب في المسلسل المصري حين يدخل بسماعته ليكتشف أن “مراتك حامل يا بي” أو “حيبقى كويّس انشاء الله.”
خامسا، أتساءل: لماذا تقتصر الوطنية والتضحية على الطبيب دون سائر المهن؟ أين المهندس وأين المحامي وأين الصحافي وأين الإداري وأين البنكي وأين سائق الطائرات وأين رجل الأعمال؟ لماذا لا يتم إجبارهم جميعا على العمل في المناطق الداخلية لمدّة 3 سنوات قبل تسليمهم شهائدهم –تماما كما هو حال هذا القانون، حتى بدون وسائل عمل، هكذا، من باب التضحية والوطنية؟ هل أن النهوض بالبلاد حكر على مهنة دون الأخرى؟ دعنا نتشارك في البناء.
ختاما، هدف إضراب الأطباء هو إصلاح عادل لقطاع الصحة، لأن النقص ليس فقط في الأطباء، ولكن أيضا في الإطار شبه الطبي وفي المعدات وفي سوء الإدارة. وحتى لا نبقى في دوامة إرسال المرضى إلى المستشفيات الجامعية أو وضع صحة المريض في خطر، فإن هناك مقترحا قدّمه عمداء كليات الطب يقوم على تبني كل قسم جامعي قسما جهويا، يتنقّل إليه في بعثة طبية بشكل منتظم لتشخيص النقائص، التكوين والمرافقة والانتهاء بإحداث أقطاب جامعية في كل المناطق بما يشمل الإطارات الطبية وشبه الطبية وإصلاح المنشآت الطبية وتجهيزها. وقد لقي هذا المشروع صدى دوليا واسعا واقترح لتكون تونس أنموذجا لحل مشكلة التصحّر الطبي.