يوميات تونسيّة: أن تكون مواطنا بعد الثورة
|يصادف اليوم أن دخلنا الشهر التاسع من عمر الثورة. طبيا تكفي تسعة اشهر لتكوين إنسان فهل تكفي لتكوين مواطن؟
ليس هينا إن تكون مواطنا في تونس بعد الثورة. يفصلنا عن الانتخابات ما يقارب الأربعين يوما فهل استوعبنا ما حصل؟
أن تكون مواطنا في تونس هذه الأيام فالأمر يقتضي منك جهدا جهيدا للحفاظ على استقرارك العصبي.
تبدأ يومك بترصد أول نشرة أخبار. المخاوف مضمونة و الهاجس الأمني يبقى أهم الهواجس.
لا يمكن ان لا تقرأ الجرائد أو تتصفح الانترنات بحثا عن مستجدات الساسة و أخر تطورات الاستعداد للانتخابات و قد يعترض سبيلك أحد المتربصين بالانتخابات فيبحث معك طرقا مختلفة لشراء صوتك أو على الأقل للتفاوض معك في إمكانية شراء صوتك أو التأثير عليك. المبلغ المطروح أو الامتيازات المعروضة وقف على مستواك العلمي و الاجتماعي و بالطبع يؤثر فيها مدى قدرتك على التأثير في من حولك أو فلنقل على عدد الذين يمكن أن تؤثر عليهم أنت بدورك. تستميت في أن تفهم صاحب الصفقة أن الثورة قامت من اجل التصدي لمثل هذه التصرفات وأنك بما اكتسبته من ثقة في نفسك كمواطن ترفض رفضا قاطعأ أن تبيع صوتك و تتشبث بهذا الصوت…هو صوتي منذ استرجعت مكانتي كمواطن في هذا العالم…و قد تدخل مع صاحب الصفقة في سجال حول مفهوم المواطنة في بعده الكوني و حول حقوق الإنسان و قيمة الاختلاف و حول مفهوم الثورة و حول الانتقال الديمقراطي و حول أحلامك كمواطن…
تتزعزع ثقتك فيما حولك فتلهث تبحث عن شخص ثقة عساك تستأنس برأيه في خضم كل هذه الأحداث. تبحث و تبحث وقد تعثر أخيرا عن احد أهل الثقات و ما أن ترتاح لهذا الشخص حتى يعلو صوت من هناك يشكك في مصداقية صديقك الجديد الذي كنت قد بدأت تثق فيه.
تستجمع قواك و تحاول أن تعول على نفسك فتنطلق من جديد في رحلة بحث عن مقومات المواطنة و معنى الوطن وتجهد نفسك في الالمام بمستجدات الساحة السياسية فيخبطك انه قد صار في البلاد ما يزيد عن المئة حزب…مئة حزب بحق السماء في وطن لم يعرف أكثر من حزب واحد على مر عقود…تتوتر…تهدأ من روعك و تحاول تقصي حقيقة اكبر عدد ممكن من هذه الأحزاب و تبدأ عملية الفرز أخيرا يبدو انك قد اقتنعت فليس في البلاد أكثر من 5 أحزاب تستحق أن تكون احزابا…تهون عليك عملية الجرد هذه…فقد تسهل عليك عملية اختيارك الانتخابي…
الانتخابات على الأبواب…القائمات و القوائم…رؤوس القوائم…التناصف و المراوحة…القائمات الحزبية و القائمات المستقلة…سبعون قائمة مترشحة عن دائرتك الانتخابية…بحق السماء سبعون قائمة في دائرة انتخابية و أكثر من 100 حزب و ما يزيد عن ألف جمعية…
تتذكر شأن الجمعيات و تتذكر ما كنت يوما قد قرأته عن دور المجتمع المدني في رسم المسار الانتقالي…تهرع إلى اقرب ثقة منك و تبحث في دائرة معارفك عن جمعية أو منظمة غير حكومية يمكن أن تنخرط في برنامجها عساها تساعدك على توضيح الرؤية…
الانتخابات على الأبواب و في الحاصل أنت كمواطن تلهث بين اجتماعات الأحزاب المقامة في منطقتك و بين البرامج الإعلامية المخصصة لذلك و بين مستجدات الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة و الهيئة العليا للانتخابات و هيئة الإصلاح و لجان تقصي الفساد و لجان تقصي الحقائق و …و …و بين مجهودات المجتمع المدني التي قد تحصّل منها اجتماعا على الأقل أسبوعيا…
الانتخابات على الأبواب و هل ينفع ان نقاطع الانتخابات؟ سؤال قد تطرحه على نفسك على مدار اليوم و تنطلق تبحث له عن إجابات محتملة. في الإثناء أصوات لا تعلم من اين أتتك تلوح باستفتاء فتنطلق أنت كمواطن في بحثك الخاص لتجميع اكبر عدد من المعلومات حول هذا الاستفتاء… في الأثناء يصادف أنّ غدا العودة المدرسية فتتذكر انك لم تستعد بعد لذلك و لم تتزود و هل يختلف زاد هذه العودة الدراسية سنة الثورة عن سابقاتها؟
في فوضى كل هذا يطلب منك رئيسك في العمل أن تبذل مجهودا اكبر و تركز على عملك. العمل قيمة…العمل واجب في هذه الظروف حتى لا تتعطل العجلة الاقتصادية و هل أثمرت الثورة تغييرا في المسار الاقتصادي هل انخفضت الأسعار؟ لماذا لم تنخفض الأسعار و أنت لم تتغيب يوما عن عملك و استمت بعد الثورة تثابر و تكد حتى لا يتعطل عملك ليوم واحد؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
تجد نفسك كمواطن بين مقتضيات المواطنة و استحقاق أكتوبر و أحلام الثورة و غلاء المعيشة و أصوات المشوشين وادعاءات الداعمين و هتافات المرشحين و تكالب المتربصين و مستحقات العودة المدرسية و مستجدات الساحة العالمية ومشاكل الوطن…تكاد تجن و يكاد يومك لا يكفي بساعاته الأربع و العشرين لتقضي كل حاجاتك هذه و لتكون ملما بكل ما يطرأ من حولك.
تتذكر انك انخرطت في عملية مراقبة الانتخابات و تتذكر أن جمعية ما دعت إلى اجتماع ما من اجل تحفيز المواطنين للذهاب إلى صناديق الاقتراع… في الأثناء قد تتصل بك زوجتك أو أمك تريد أن تشتري لها حليبا أو خبزا أو ماء أو لست ادري ماذا…
في كل تغض الطرف على انك مواطن معطوب او مواطن قيد التكوين فأنت إلى حدود 14 جانفي من هذه السنة كنت من رعايا هذه الديار فإذا بك قد أصبحت بين عشية و ضحاها مواطنا عليه ما عليه من وجبات و له ما له من حقوق و تتذكر شأن الشهداء الذين سقطوا و شأن القناصة و تعود بك الذاكرة إلى ليالي شهر جانفي من هذه السنة في تلك الليلية الحالكة الظلمة حين رصد أبناء الحي القائمون على حراسته رصدوا عددا من المقنعين في مدرسة الحي و بعد تبادل لإطلاق النار بين الجيش و تلك العناصر و بمعية من أهل الحي ينجح عناصر الجيش في القبض على عدد من القناصة كانوا مرابطين بمدرسة الحي و تتذكر أثار الطلقات النارية على أبواب المدرسة و تذكر خاصة مذاق ذلك الخوف الذي انتابك تلك الليلة تتذكر حينها شأن العدالة…او العدالة الانتقالية و قد تتذكر خاصة و بالذات أهالي الشهداء الذين سقطوا برصاص القناصة…تصدح أغنية في رأسك “حليلي حليلي على وليدي…حليلي راو قتله القناص…” و تذكر تشييع جنازة احد الشهداء بشوارع العاصمة و تذكر فيما تذكر انك يومها عاهدت نفسك على أن تتابع مسألة محاكمة المسؤولين و فجأة يطفو على السطح اسم احد التجمعيين الذي عين للتو في منصب مرموق و حساس و تمر أمامك هواجس عديدة و تذكر فيما تذكر كل تلك الشخصيات التي تسربت إلى الخارج و أفلتت بقدرة قادر من سطوة المساءلة أو المحاسبة أو المحاكمة.
و أنت تركض بين كل هذا و تحاول جاهدا أن تسيطر على أعصابك لأنك مواطن تتذكر أنّ “الزين الذي قطع” منذ فترة مرابط هناك في بلد عربي مسلم و شقيق. هو اتخذ من قبلة المسلمين ملاذا هو هناك يروح و يجيء و في الأثناء تبلغك شائعات عن محاولة زوجة الرئيس السابق محاولتها الانتحار فتفكر : ماذا لو مات أحدهم قبل أن يحاسب و قبل أن يتم جلبهم و هل حقا سيتم جلبهم يوما و قد تفرقوا في الأرض هم و أتباعهم.
تذكر أن هناك شيئا في هذه الديار اسمه حكومة فتسأل عن سبب التأخر في استرجاع المستبدين الفارين خارج البلاد و سبب المماطلة في محاكمة المستبدين الباقين في هذه الربوع و تسأل عن أشياء أخرى لا تقل أهميّة.
تتذكر شأن صديقك المتخرج منذ 10 سنوات و تسأل عن ما حلّ به فيروعك انه إلى حد اليوم لم يحصّل وظيفة……
تسأل و تسأل و الجواب يأتيك سهلا و بسيطا هي حكومة انتقالية لا يسعها أن تقوم بكل شيء و في الأثناء تتذكر شأن الاستفتاء الذي كنت قد قرأت عنه انه يطرح تحديدا لمسؤوليات المجلس التأسيس و يضبط له إطارا زمنيا قد لا يتعدى السنة… و هل تكفي السنة لتأسيس دولة و إذا كانت تكفي لم لم تنجح الحكومة الانتقالية الحالية في فعل ذلك؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
في الأثناء تشكّكُك النخبة أو أشباه النخبة في قناعاتك” المواطنية”… الم تقتنع أن المجلس التأسيسي سيكون أول هيئة منتخبة في تاريخك الوطني؟ أول هيئة ينتخبها الشعب بإرادته و يفوض لها إدارة شؤون البلاد. المجلس التأسيسي…تذكر فعاليات اعتصام القصبة واحد و اثنين و تذكر كيف كتب المعتصمون بالخط العريض “المجلس التأسيسي مطلب الثورة” وفجأة يصفعك أحدهم بقوله إن المجلس التأسيسي كان مطلب من حضروا في اعتصامات القصبة و لم يكن مطلبا وطنيا ويحدثك هذا “الأحمق” الذي صفعك للتو بفكرته هذه يحدثك عن الأغلبية الصامتة و تذكر شأن ذلك الاعتصام النخبوي الذي نظمته الأغلبية الصامتة ذات يوم و قد فاحت من المشاركين فيه روائح أرقى العطور العالمية و جاؤوا يمتطون افخر السيارات و هتفوا “القصبة لا تمثلنا” فما كانوا إلا عشرات تعد على الأصابع…
تذكر كل ذلك فتتوجس خيفة و تتأهب كأنك تنزل ميدان القتال بعد حين و ربما في كل حين…تتساءل و في كل مرة تتراكم التساؤلات…و تتعب أعصابك من جديد…و تذكر انك منذ تسعة اشهر لم تنم ليلة واحدة هنيئة و لم تغط في نوم عميق منذ تسعة اشهر و لم تستقر عواطفك على إحساس و لم يستقر أمرك على رأي و تذكر فيما تذكر أن شعوبا بأكملها تحتاج إلى من يربط على كتفها و يضمد جروحها النفسية العميقة و يساعدها أولا و بالذات على طي صفحة الماضي و المصالحة مع الحاضر…و تذكر قول تلك الاختصاصية النفسية على شاشة التلفزة “الشعب في حاجة إلى دعم نفسي لتخطي تأثيرات الحقبة الماضية” و تذكر فيما تذكر انك إلى حدود ألان مازلت خائفا و ما زالت الرؤية أمامك ضبابية و انك لا تعلم إلى أين تسير البلاد و انك في ظل كل ذالك تستميت لتحافظ على تفاؤلك و ثقتك في أن مستقبل هذه الديار سيكون حتما جميلا و مشرقا.
تستقر أخيرا على رأي تسعة أشهر لا تكفي لأستوعب أنني قد أصبحت مواطنا بأتمّ معنى الكلمة سأكتفي بتسمية نفسي “مواطن تحت التدريب” أو فلنقل “مواطن قيد التكوين” في انتظار أن استكمل كينونتي كمواطن بأتمّ معنى الكلمة