مراحيل: مسرحيّة تنفض غبار الكهف
|كان مسرح المركز الثقافي الجامعي حسين بوزيّان يعجّ بالجمهور يوم أمس…مئات من المتفرّجين تزاحموا لمشاهدة مسرحية “مراحيل” في مشهد غير معهود في المسرحيات “الجادة” في غير أيّام قرطاج المسرحيّة. وقد تزداد الغرابة إذا علمنا أنّ الأمر يتعلّق بمسرحيّة هاوية ليست لأصحابها تلك الأسماء الرنّانة المتعوّدة على جلب الجمهور.
وفي الحقيقة، لم يكن لمبدعي “مراحيل” من الهواية إلا ذلك الشغف العجيب بالمسرح القادر على نفخ روح البذل والعطاء غير المحدودين في أنفس أصحابه. أمّا فيما عدا ذلك، فقد كانوا محترفين للغاية بعنايتهم بأدقّ التفاصيل في كلّ جوانب العمل: تمثيلا وديكورا وإضاءة وموسيقى ومؤثّرات… والاحتراف ذهنيّة قبل أن يكون أجورا. واجتهد القائمون على العمل بأن خصّصوا بعض الوقت بعد انتهاء العرض لمناقشة المسرحيّة مع الجمهور، وهو تقليد نتمنّى أن يصبح راسخا ومعمّما في أيّام قرطاج المسرحيّة.
تمتح “مراحيل” من قصّة أهل الكهف القرآنية مع ربطها بأسطورة تطاوينية محليّة تزعم أنّ القصّة حصلت في تلك الربوع، وأنّ المعنيين دفنوا في موقع معروف إلى الآن باسم “الرقود السبعة”. غير أنّ المثير للاهتمام أنّ أهمّ عنصر في القصّة، وهو نوم أصحاب الكهف الطويل، غاب تماما عن نصّ المسرحيّة لتكون الإحالة إلى الأسطورة مبهمة، إذ فيما يكون المشاهد مترقّبا لحدث النوم يفاجأ بنهاية المسرحيّة، وكأنّها تنتهي قبل أن تبدأ ! ورغم أنّ النصّ لا يستثمر إلا النزر اليسير من أبعاد الأسطورة، إلا أنّه مع ذلك بدا مثقلا بالدلالات إلى حدّ الإرهاق، فهو يحاول في نفس الوقت أن يحافظ على البعد المرجعي للأسطورة وأن يأخذ بعين الاعتبار بالخصوصية المحليّة للمنطقة وأن يحاول كذلك استغلال دلالات القصّة للإحالة إلى الوضع السياسي والاجتماعي لتونس ما بعد الثورة، كلّ ذلك في عرض لا تتجاوز مدّته الساعة الواحدة، وهو ما يؤدّي بالمشاهد إلى إحساس بالتمزّق أمام هذه الأبعاد المتباعدة للنص (إلى جانب الطابع المباشر (من قبيل أن يطلب الحكيم من صحبه التحابب والتآزر) الطاغي في مقاطع كثيرة ممّا جعل العمل أقرب إلى المواعظ). وقد فسّر الأستاذ علي دب، كاتب النص، ذلك بقوله أنّ النصّ الأصلي كان يتمحور حول فكرة الألم والمعاناة في محاولة الخروج من مختلف الضغوط، أمّا تلك الأبعاد المتعلّقة بالثورة، فهي من إضافات المخرج الّذي رغب في إدماج النصّ في سياق ما حصل في تونس منذ 14 جانفي. ويعترف الكاتب: “لو كنت كتبت النصّ الآن، لكان يبتعد قليلا عن النصّ الّذي تمّ إخراجه”. وهذا لا يقلّل من قيمة النصّ الّذي كان على درجة من الشعريّة تجلّت خصوصا كلّما كانت هناك مصاحبة موسيقيّة، وربّما كان بالإمكان تحويل العمل إلى مسرحيّة موسيقيّة، ملحّنة من أوّلها إلى آخرها لو توفّر له مزيد من الوقت والإمكانيات.
ومن العناصر “المرهقة” كذلك في العمل ثقل إيقاعه، فعلى الرغم من القصر النسبي لفترة العرض إلا أنّ بطء تقدّم الأحداث يجعل من العصيّ متابعته على المشاهد غير الصبور، ولعلّ للتقطيع المشهدي دورا في ذلك، فالمسرحيّة لا تنقسم كالأعمال الكلاسيكيّة إلى فصول يجمع أجزاءها شيء من التجانس، بل إلى مشاهد يبدو الترابط بينها ضعيفا في بعض الأحيان. يضاف إلى ذلك تعدّد الممثّلين (سبعة) دون أن يضيف العدد الكثير إلى المحتوى، فقد كان بالإمكان طرح نفس المضمون بأربعة أو خمسة ممثّلين، وإعفاء المشاهدين من تشتيت الذهن بين عدد كبير من الشخصيات الّتي قد تكون الغاية الوحيدة من وراء إيرادها التمسّك بالعدد الوارد في الأسطورة المحليّة الأصليّة.
أمّا الصورة في هذا العمل، فقد طغت عليها القتامة. كان السواد سيّد كلّ المشاهد. ربّما يكون ذلك طبيعيّا بما أنّ أحداث المسرحيّة تقع في كهف، ولكن إن أضفنا تلك الستارة الشافة المجعّدة التي يخال من يشاهد عبرها أنّه يتابع منظرا معفّرا بغبار الزمن، فإنّ الصورة تصبح أشبه بكهف داخل كهف…إيغال في القتامة لم تنجح المؤثّرات البصريّة العديدة من إضاءة مبهرة ودخان “عجعاجي” كثيف في التنسيب من أثره، بل أنّه يتعزّز مع خاتمة المسرحيّة التّي يخيّر معها أصحاب الكهف الإحجام عن مواجهة العالم الخارجي والرجوع للاحتماء بكهفهم. نهاية متشائمة، إن لم نقل انهزاميّة. وهو ما لم ينفه مخرج العمل حافظ خليفة الذي صرّح أنّ الوضع الحالي في تونس لا يدعو للتفاؤل، وهي الرؤية الّتي انعكست على العمل.
وتجدر الإشارة إلى أنّه رغم جديّة العمل، فإنّه حشر في فضاء لم تتوفّر له التجهيزات اللائقة لكي يتمّ عرضه في أحسن الظروف، كما بيّن لنا المشرفون على العمل، وكأنّ اختيار عمل هاو للمشاركة في أيّام قرطاج المسرحيّة منّة تكرّمت بها الإدارة على أصحابه الّذين عليهم أن يكونوا شاكرين وأن يرضوا بكلّ الظروف مهما بلغت رداءتها، وهو ما يدخل في سياسة المعايير المزدوجة الّتي تقيّم العمل بالأسماء العاملة عليه، لا بجودة مضمونه…هذه السياسة الّتي نرجو أن نفلت من براثنها يوما ما.