العورة في فكر ما بعد الثورة
|بقلم: عصام الصغيّر
وهو على فراش الموت، نادى جوزيف بروز تيتو إمبراطور يوغسلافيا مستشاريه وقال لهم ” لا ترفعوا الحجر عن بئر الأفاعي” ورحل سنة 1980 ورقص الجميع بعد رحيله وقالوا تخلصنا من الديكتاتور. ولكنهم اكتشفوا بعد سنوات الحرب الأهلية وفظاعات الاقتتال الطائفي أن الديكتاتورية على بشاعتها غالبا ما تنجح في ستر عورات موجودة في المجتمعات التي تحكمها. فالخوف يحجب الإبداع ويقتله لكنه أيضا يحمي المجتمع من بعض الأفكار الغبية لبعض أفراده أو لأغلبهم.
في تونس رحل بن علي غير مأسوف عليه واكتشفنا بعد رحيله أننا متخلفون أكثر مما كنا نعتقد وبانت وتعددت عوراتنا. فقد ظهرت بعد الثورة تصرفات وعاهات فكرية مخجلة لم ندركها من قبل في زمن كان فيه ماسحو الأحذية الرئاسية ينسبون كل خير لرئيس البلاد ومن ناحيتهم كان كارهو ZABA ينسبون إليه كل شر حتى انحباس المطر. وبعد رحيله اكتشفنا أن كليهما كاذب وصار بإمكاننا أن ننظر لأنفسنا في المرآة عارين من كل شيء إلا من حقيقتنا.
من بين عوراتنا الكثيرة سأكون زاهدا في الوصف وأحدثكم عن واحدة فقط في هذا المقال رأفة بحالي وبكم. فالحقيقة مرة غالبا وقد لا نقوى عليها كاملة وحسبنا منها ببعض الجرعات.
هذه العاهة تجلت وظهرت في الضجيج الذي رافق عرض فيلم “لا ربي لا سيدي” للمخرجة نادية الفاني حيث تم إيقاف الفيلم ونفّذ “فرسان الفايسبوك” غزوة “أفريكآرت” وهنؤا أنفسهم ببطولة فاسدة في زمن فاسد. نسي هؤلاء أو تناسوا أو علَهم لا يفقهون تماما ما معنى حرية المعتقد التي أسس لها القرآن وكرستها السنة النبوية الشريفة. وصفق لهم شعب أمعن فيه الجهل مخالبه فنسي تاريخه ونسي كيف حمى نبي الإسلام محمد(ص) اليهود في المدينة وسمح لهم بممارسة شعائرهم علنا ومشى في جنازة بعض الأخيار منهم. نسي هؤلاء الدولة العباسية وكيف كانت بغداد تعـج بكـل العقائـد مـن يهوديـة ومسيحيـة بكـل أطيافهـا وصابئـة مندائيـن ومغتسلـة ومجوسيـة ( بفرعيها موحدة ومثنية من أتباع ماني أومانيس) وملحدين ونفاة وزرادشتية وكيف كانوا يمارسون جميعا طقوسهم علنا ولم يسجل التاريخ أنهم تعرضوا لأي نوع من المضايقات بل أنهم كانوا في مأمن أكثر من بعض الفرق الإسلامية التي عذب أتباعها ونكل بهم في بعض الفترات وخاصة المعتزلة والشيعة.
نسي هؤلاء ومن والاهم أن أكبر عمل فني يحتفي بالإسلام ويدعوا إليه صراحة وهو فيلم “الرسالة” للمخرج العربي الكبير مصطفى العقاد عرض في 3000 قاعة سينما بالولايات المتحدة الأمريكية قبل أن يعرض في أي دولة مسلمة وكتب له السيناريو الكاتب الإيرلندي المسيحي هاري كريغ Harry CRAIG وقام ببطولته في النسخة الأنقليزية الفنان الأمريكي الكبير والمسيحي الملتزم أنطوني كوين. ولم يعترض على عرض الفيلم الأمريكيون المسيحيون وإنما رافقته أعمال عنف تورط فيها شباب مسلم قيل لهم أن في الفيلم مساس بالمقدسات الإسلامية وهي ترهات ثبت للجميع كذبها في ما بعد. ولا ننسى في هذا الصدد أن نذكر بالمجهودات الجبارة التي بذلتها المملكة العربية السعودية والمجلس الإسلامي الأعلى لمنع تصوير فيلم الرسالة والضغوطات التي مارسوها على الحسن الثاني والّتي أدّت لإيقاف تصويره بالمغرب وإتمامه قسرا في ليبيا. واتهم جماعة اللحي والفتاوى الغبية مصطفى العقاد بالزندقة والإساءة للإسلام ولم يكفهم ذلك فقتلوه في تفجير إرهابي سنة 2005 بينما كان يستعد لإنتاج عمل ضخم عن صلاح الدين الأيوبي. قُتل العقاد على يد “مسلمين” لا يختلفون كثيرا عن الذين أعلنوا الجهاد على فيلم يتحدث عن الإلحاد ولا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بالإسلام. ما أشبه اليوم بالبارحة، نفس الغباء ونفس المكابرة بل ربما أكثر.
ولا مجال طبعا للمقارنة بين مصطفى العقاد والمخرجة التونسية التي أعتقد شخصيا أن أعمالها رديئة وضعيفة ولكنني كنت أود لو كان عنوان الرد على فيلمها ” تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ”.
الخلاصة في الأمر هي أن المسلمين عندما كانوا بناة حضارة وأمة تفقه دينها كانوا واثقين من أنفسهم ومن عقيدتهم ولا يخافون عليها من فيلم أو من مقال في جريدة بل ترجموا بأنفسهم نصوص الأديان الفارسية واليونانية والبيزنطية وناقشوها وكانوا يبارون أهل الأديان الأخرى بالحجة والبرهان وليس بتهشيم الزجاج والتهجم الرخيص على من يخالفهم الرأي وقد بلغ الجهل ببعض المزايدين في الإسلام حد السخرية من صلع المخرجة الناتج عن إصابتها بمرض السرطان. هل بلغت بنا الدناءة حد الشماتة بأقدار الله سبحانه وتعالى؟
وأنا أتابع ما رافق عرض هذا الفيلم من مزايدات وعنف فكرت كثيرا في الجالية المسلمة في أوروبا وما الذي سيحدث لها لو فكرت حكوماتها وشعوبها بالتصرف تجاه المسلمين بنفس الطريقة التي تصرف وفكر بها أغلب التونسيون تجاه الفيلم. فكرت بالنفاق الذي يحكم تفكير بعض التونسيين الذين يستنكرون تصريحات اليمين المتطرف المسيحي في أوروبا وهم أنفسهم يمين موغل في التطرف والتعصب والجهل باسم الإسلام. فكرت في المثقفين الشعوبيين الذين تنازلوا عن الدور الذي يجب أن يلعبه كل مثقف جدير بهذا اللقب وصاروا يبحثون عن شعبية رخيصة ويباركون الجهل. فكرت في شعب يضرب كباره على الدف والعالم يلومه على الرقص.