كفانا نفاقاً
|عندما تحلّل البنية الخطابية و الفكرية للمجتمع التونسي، تتكشّف عن سكيزوفرينيا عميقة. ولعل ما يقال عن شهر رمضان أكبر دليل على ذلك. وما استفزني بصفة خاصة هذه السنة؛ أنه رغم امتداد الصوم على فترة طويلة من اليوم، ورغم الحر و الشمس؛ فإنك تجد من يسمح لنفسه بأن يتطاول علينا فكرياً و يقولها لنا بكل بساطة و “على بلاطة” وفي “عز القايلة” : شهر رمضان هو شهر العمل والبذل و العطاء…..أي عمل يا “معلم” والجسم منهك والعقل شارد.
لا يختلف اثنان في ما سأسميه الفوائد الهيكلية للصوم على جسد الإنسان، فهذا الشهر يعتبر كاستراحة المحارب و انعكاساته الإيجابية ثابتة علمياً. رمضان ينطوي كذلك على أبعاد روحانية فريدة: ذلك الإحساس بالعطش و الجوع الذي يجعلنا نتجلى معاني الحرمان و المكابدة من أجل غاية سامية.كذلك،رمضان يكرس معنى المساواة لعدة ساعات في كل يوم؛ فالصائمون مهما كانت انتماءاتهم الطبقية يلتزمون بسلوك موحد.
و لكن القول و التأكيد على أن شهر رمضان هو شهر العمل و الكد، فهذا أمرٌ يفتقد للموضوعية، إنه كلام فيه كثير من النفاق و الدجل عندما يتقاطع رمضان مع أشهر الصيف و إذا سلمنا بالطبع أنه لا يمكن تغيير توقيت العمل أو الدوام اليومي ليبدأ بعد أذان المغرب بساعتين مثلاً (ربما يصبح ذلك ممكناً في عالم افتراضي، كعالم أليس و بلاد العجائب ! ). فالعمل والكد والاجتهاد والإنتاجية كلها نتائج مرتبطة بحضور بدني و ذهني لا يمكن أن يتوفر وبجاهزية مستحيلة المنال نظراً إلى أن المساحة الزمنية الفاصلة بين الإفطار و الإمساك لا تتجاوز السبع ساعات. و إذا حاول المرء أن يثمن هذا الحيز الزمني بأكمله من الناحية الغذائية وفق خطة مدروسة تجعل الأكل و التنويع فيه، ساعة بعد ساعة، هدفاً إستراتيجياً؛ فإن نصيبه من النوم سوف يكون في أحسن الحالات خمس ساعات…خمس ساعات و يأتي من يحدثنا عن العمل و الكد و الإجتهاد. إن وجد من له استعدادٌ للاستماتة في الدفاع عن هذا الطرح الغريب العجيب، فأنا بدوري مستعد كذلك لأن أوجه له الضربة القاضية، في باب الحجج بالطبع : الحرارة ،”السخانة” يا صديقي المتعنت. فعلى حد علمي، رمضان هذه السنة يتوافق مع قلب الصيف، الشمس في “كبد السماء” و النسيم العليل في الإيقاف التحفظي.
فلنفكر قليلاً في أولئك الذين يستقلون كل يوم الحافلة للذهاب إلى العمل وأترككم تتخيلون المشهد للحظات : “الباص” كالقدر المنتفض غلياناً، الركاب “مستفون تستيفاً” ،و الكل يجاهد من أجل بقعة داخل “الكوز الأصفر” و الكل يستميت لاستنشاق نزر قليل من الهواء الممزوج بالروائح المميزة للإفرازات البشرية. أما البقية، فستجد فيهم من يستقل الحافلات الخاصة البيضاء و حاله ليس أحسن بكثير من مناضلي “الكوز الأصفر”، أما مستقلو أو بالأحرى صيادو سيارات الأجرة، فلعبة المطاردة و المحاصرة للأميرات الصفراء تستنزف طاقاتهم منذ بداية اليوم. بالنسبة لمن يمتلك سيارة، فحاله يختلف عن معاناة الشعب “المطحون” و لكن لا يجب إن ننسى “إمساك” حركة المرور في مواقيت الذهاب إلى العمل…تمر الدقائق و السيارة تراوح مكانها، و الشمس في عنفوانها تسلط عليها أشعتها الحارقة كأنها سمكة تستمتع بشوائها. كل هذه المعاناة و غيرها في رحلة العذاب الأولى…..رحلة الذهاب….فما بالك برحلة العذاب الثانية…رحلة العذاب الأكبر…رحلة العودة إلى المنزل في “غرغور القايلة”.
هذا هو الإطار العام المناخي- اللوجستيكي الذي يمارس فيه الصائمون فريضتهم هذه السنة، وإنه لعمري ضرب من ضروب النفاق أن يجرؤ أحدهم على الحديث عن العمل و الكد و الإجتهاد عندما يتزامن شهر رمضان مع أيام الرمض هذه ولفحاتها التي تحاصرنا في كل الشوارع والمداخل والمخارج. لا حديث لا عن إنتاجية و لاعن مردودية بالنسبة للصائم في هذه الظروف، ويصبح الهدف المنشود المحافظة على مستوى نشاط أدنى و السهر على عدم ارتكاب أخطاء…قد تكون باهظة الثمن ووخيمة العواقب.
رمضان،شهر يأخذ فيه حبنا لله عز و جل أبعاداً أخرى، يكون هذا الإحساس في أوجه و يتشكل في تعبيراتٍ جميلة و متنوعة. رمضان هو شهر الرومانسية الوجدانية – الإلهية… رمضان هو كشهر الربيع للعشاق …
أما الكلام عن المردود فهو مردود على أصحابه من باب المنطق والموضوعية…ومن تشبث بموقفه بعد كل ما قلنا و أردفنا و استفضنا، نقول له بلا توان : كفانا نفاقاً !!!