ثورة لم تحدث في الجزيرة – الجزء 1

أثناء المشاركة في إحدى المظاهرات المطالبة بإسقاط النّظام سمعت صوتا خافتا كأنّه منبعث منّي غير ذاك الذّي يصدر عنّي فتجاهلته خاصّة و أنّ الهدير من حولي قد جعلني لا أفقه شيئا ممّا يردّده ذلك الصّوت الخافت .

ولكنّه شيئا فشيئا أخذ في الارتفاع حتّى أنّني حين توقّفت عن ترديد شعارات الثّائرين سمعته بكل وضوح فلم أصدّق أنّ ذلك يحدث بالفعل.
ولمّا نظرت إلى من حولي لم ألحظ عليهم ما يوحي بأنّهم يسمعون صوتي الآخر
فارتبكت وخفت كثيرا وأنا العاجز عن تجاهله أكثر بغية الاستمرار في المظاهرة .
و رأيتني و أنا أتأخّر شيئا فشيئا حتّى تجاوزني المتظاهرون وغابت عنّي أصواتهم ولم يبق غيره.
فزعت وقد صار ينطلق من كلّ جسدي فلم أعرف كيف أكتمه.وبحركات مجنونة لفتت انتباه المارّة أخذت أنقل يدي من فمي إلى بطني و حتّى قدميّ المردّدتين لذات الكلمات.
ولكن دون جدوى.
حينئذ لم أجد من حلّ غير الجري مغمض العينين.
ورغم أنّي أجهل كيف استطعت الوصول إلى المنزل دون حوادث فإنّ جسدي واصل الصّراخ.
دخلت غرفتي و أغلقت الباب و أنا أرتعد من شدّة الفزع حيث كان كلّي يصرخ :”حريّات حريّات، يكفينا تطمينات…مطالبنا سياسيّة لا استبداد و لا ساديّة…يا جسد ثُور ثُور على نظام الدّكتاتور…”

ويعلو الصوت حتى أصير عاجزا عن الوقوف وقد اهتزّت الغرفة لـ “اِرحل.. اِرحل.. اِرحل”
فأتساءل في استنكار:” كيف أرحل عن جسدي الحبيب الذي قضيت ربع قرن
في خدمته ألبّي طلباته وأشبع غرائزه و قد وفّرت له عيشا كريما و نمطا حياتيا يحسده عليه البقية؟”.
ومضت ساعات و أنا أفكر في المؤامرة التي تحاول بث الفتنة في وطني.
ورغم أنّي كنت بين الحين و الآخر أضرب رأسي و يدي بالحائط فإنّي عجزت عن صدّ الموج الهادر الذي ازداد قوّة وتماسكا حين نزفت جبهتي و يدي و صرخت مواطن أخرى منّي تحت وطأة ضرباتي الموجعة.
ولم يأت المساء حتى غيّر جسدي من سياسته فلم يعد مقتصرا على الصّراخ و ترديد الشعارات بل إنه أخذ في إعلان العصيان تارة في قدمي و طورا في يدي
فصرت عاجزا في كل مرة عن التّحرّك إلاّ في حدود ما يسمح لي به.
حينها فقط أدركت أنّ نهايتي قد اقتربت و أنّي إذا لم أحسن التّصرّف في السّاعة القادمة فإني راحل لا محالة.
ومنعت نفسي من التّفكير في الوجهة إذ لا جسد سيقبل بي حاكما له إذا ما قدّر الله و …
“لا لا مستحيل، لن يحدث ذلك الأمر أبدا”.
ولأنّ الفكر متى تعرّض إلى الضغط الشّديد أظهر إمكانات غير معروفة و براعات خفيّة فإنّي اهتديت إلى حلّ.
سألت صوتي أن يحمل عنّي طلبا إلى بقيّة الجسد فرفض في البداية معلنا دعمه الكامل للثّائرين و حين طمأنته بأنّه خائن لي استجاب.فسمعته وهو يصرخ :”أنا أطلب الهدنة بغية التّفاوض” فسرى صمت رهيب في جسدي لأوّل مرّة منذ ساعات .
كنت أشعر بحالة التّرقّب التي يمكن أن تنتهي في أيّة لحظة فظللت صامتا فترة من الزّمن وحين سألت الصّوت مرّة أخرى كان الإعلان التّالي:
“أيّها الجسد العظيم، أيّها المناضل الكبير،
لا يشكّ أحد في أنّك قد خططتَ اليوم ملحمة لم يسبق للتّاريخ أن شهد مثلها و إنّي لفخور جدّا بك و بإنجازاتك و على استعداد تامّ لتلبية كلّ مطالبك.”

سكون تامّ ثمّ

“ولكنّي حين نظرت في مطلبك الأساسيّ المتمثّل في رحيلي عنك وجدت أنّك لم تقرأ حسابا للفراغ الذي سيحدث من بعدي.”

فكّرت حينها أن لو كانت عيناي تحت تصرّفي لرأيت الشّكّ يشقّ جسدي محدثا انقسامات كبيرة ولكن…

“وحرصا على وحدتك وحماية لك من الأطماع الخارجيّة فإنّي أعلن استعدادي التّامّ لمنحك الحريّة و الاستقلاليّة و سأبدأ منذ اللّحظة في تزويد كلّ الأعضاء بما يحتاجون.
فهلمّوا واصلوا ثورتكم و ليسأل كلّ عضو حاجته…”
وما إن أنهى صوتي الإعلان حتّى سرت همهمة كبيرة و كثرت الهمسات و اشتدّ الصّخب ففكّرت أنّ مصيري سيحسم في اللّحظة الموالية.
“أريد حذاء فاخرا وجوارب جديدة و سيّارة” صاحت قدمي،فابتسمت.
“لقد ضقت ذرعا بأكلاتك الرّديئة و أريد لذيذ المطاعم من هنا فصاعدا” نادت بطني، فكتمت ضحكة ساخرة وقد أيقنت من نجاح خطّتي.
و توالت النّداءات رافعة شعارات مغايرة لتلك المزلزلة فأسرعت أقترض من أصدقائي أحقّق مطلب ذاك وحاجة تلك.
وماهي إلاّ أيّام حتّى خفتت الأصوات و عمّت السّكينة جسدي فأعلنتُ نجاح الثّورة التي ستكتمل بإجراء انتخابات شرعيّة نزيهة ستحدّد الحاكم القادم لجسدي رغم أنّ لا منافس لي.
ولكنّي متمسّك بالدّيمقراطيّة والشفافيّة التي ستُخمد إلى الأبد بعض الأصوات القليلة التي لا تكاد تسمع وهي تحاول دون جدوى إحياء الثّورة من جديد.

Please follow and like us:
One Comment

اترك رد

Verified by MonsterInsights