بقلبي…أراك…
|في ركننا المعتاد بالمقهى….حيث كل أسباب السعادة تغمرنا بتساؤلات عن الغيب..هناك…حيث ننقطع نهائيا عن العالم المادي ونسبح معا في ملكوت الله …هناك..حيث ننسى أعمارنا و من أين جئنا.. و إلى أين نذهب.. .هناك.. حيث لا أحد يراقب ذكرياتنا… أو يحاسبنا على أفكارنا وأحلامنا…هناك حيث تترعرع أحلامنا أمامنا..حيث تلخص نظرات عينيه الحياة.. كان يمسك يدي بلهفة…و يرمقني بنظرات متعبة..لاهثة…كان في عينيه نوع من التوسل..
– لا تذهبي…لا تذهبي…لا أستطيع التنفس من دونك…الحياة بعدك عبث وانتحار بطيء..
لم أكن أنظر إليه…بل كنت أتأمل النصف الأعلى من الكون …ذلك النصف الذي أحب…كانت الشمس تميل إلى الغروب…والسماء تسبح في خليط رائع من الألوان…لم أكن انظر إليه…لكني حفظت ملامحه عن ظهر قلب ..حفظت حركاته.. وتغير سحنته من الفرح إلى الغضب ..ومن الحزن إلى الانشراح… ومن الهدوء إلى الانفعال …
– لن تذهبي…أ ليس كذلك…لن تتركيني..
كان يتكلم بتعب…بينما أحاول جاهدة أن أخفي دموع اللوعة والحرقة التي تعتصرني منذ أيام..منذ آخر لقاء لي مع الطبيب …
– للأسف..فان الدواء الذي تتناولينه منذ مدة لعلاج القلب قد أثر سلبيا على قرنية العين…ولا أخفيك سرا…هذا الدواء هو الوحيد المتوفر حاليا لعلاج ما تعانين..لكن تناوله سيؤدّي بك إلى فقدان البصر…فلك الخيار ..إما أن تنقطعي عن تناوله وفي ذلك خطر حتمي وشديد على القلب..وفى المقابل تستعيدين صحة عينيك..أو تستمري في تناوله..مع احتمال كبير…أن تصبحي ضريرة…
ضريرة…. كلمة لزمتني في نومي وفي صحوي ..و رقدت بين الدمعة والدمعة..و أي سخرية للقدر ..عندما يضعك بين خيارين أحلاهما مفجع…صادم..مميت….و هذا الطبيب الأحمق..أيهزأ بي أم بنفسه…أيخيرني بين موتى و بين حياتي في ظلمة دامسة…و أيّ حياة هذه التي تعاش بدون بصر..بدون نور…بدون شيء يذكر…
– يجب أن أسافر …لا خيار لدي…ولا تقلق ..فلن أغيب طويلا…ستكون فترة نقاهة صغيرة أسترجع فيها عافيتي تماما …سأغيب قليلا لأعود إلى الأبد…و سنلتقي مرة أخرى في ركننا المعتاد حيث أسند رأسي على كتفيك وألقي بتعبي جانبا و أستسلم للحلم….و ستصطحبني إلى المنزل سيرا على الأقدام كما فعلت دائما …لا تنسى أن فصل الربيع على الأبواب و أن شهر ماي قريب …شهرنا العزيز الذي ولدنا فيه معا.. سيكون هناك الكثير من الأشياء الجميلة في انتظارنا…
كنت أحاول طمأنته…كنت أكذب…لم يكن بوسعي إلا أن أكذب وأنا أشاهد الاضطراب الطفولي في نظرات عينيه…كانت في عينيه سحابة داكنة وألم دفين…وحيرة أشبه بالشك..أو شك أشبه بالحيرة…لم يكن بوسعي إلا أن أكذب منصاعة للصوت الإلهي القادم من المجهول ..كان صوتا قويا ..دافقا..حادا يصرخ بي و يتوسلني أن أرحم هذا العاشق المتعب ..هذا المحب الصادق الذي تأبى الحياة إلا أن تذيقه أصناف العذاب…
كنت أكذب…وكنت أتفادى النظر إليه حتى لا يكشفني..فالمحبون لهم إحساس استثنائي وقدرة عجيبة على كشف أكاذيب من يحبون…
كنت اكذب..ما قلته لا أساس له من الصحة ..ولا يتعلق الأمر بالسفر إلى الخارج للتمتع بفترة نقاهة كما ادعيت .. في الحقيقة ..لن أذهب إلى أي مكان…سألازم البيت لمدة قد تطول وقد تقصر…في الحقيقة ..لن أبارح المدينة…و لن يكون بيننا من المسافات ما يتخيله..بل سأبقى في المنزل ..لا لشيء…إلا لأدرب نفسي… على العمى….
كنت أكره الوداع…الوداع لا معنى له بالنسبة لي..هو كالموت بالنسبة لي… نكون..فلا يكون..
لطالما اعتقدت انه لا وجود لنهايات..بل هناك دائما بدايات لأشياء جديدة..لأحداث جديدة..لتفاصيل جديدة…
حاولت أن أجعل ذلك اليوم عاديا إلى أبعد الحدود..يوم ..كأيام الأسبوع الأخرى…بحيث اصطحبني في نهاية اللقاء إلى المنزل سيرا على الأقدام…كانت المدينة غارقة في السكون ..وكانت الشمس قد غربت ولم تترك على وجه السماء سوى بعض خيوط أرجوانية رفيعة ممتدة إلى أقصى الحلم…وما إن وصلنا إلى باب البناية حتى استقبلنا صوت فيروز كالعادة شجيا…منطلقا بجنون و حرية من دكان الحي …نفس الأغنية ..تعوّد صاحب الدكان أن يسمعها كل مساء عشرات المرات..وتعودنا أن نسمعها نحن أيضا حتى انسنا بها وأنست بنا..ورددنا معها بصوت خافت… أنا لحبيبي ..وحبيبي إلي..يا عصفورة بيضا لا بقى تسألي…ما بيعتب حدا ..ولا يزعل حدا..أنا لحبيبي..وحبيبي إلي…
لم يكن هناك عناق حار…أو تبادل قبلات صغيرة..لم يكن هناك دليل واحد على الغياب…لكن كل منا أحس بتلك الغصة الحارقة التي تنبئ بالفراق تمزق أحشاءه…وولج معي إلى ردهة البناية..لم يكن قادرا على الذهاب.. كان ينظر إليّ بلوعة..باشتياق كأنه قد مضى قرن على آخر لقاء لنا…كان يمسك بأطراف ثوبي كطفل صغير يخشى لو ترك الثوب..أن يختلط بالزحام…و يضيع ضياعا أبديا…كانت الردهة مظلمة … وسكون غريب يمتد في المكان أشبه بسكون الموت..وصوت فيروز يأتي من بعيد..من قاع محيط..أنا لحبيبي..وحبيبي إلي.. ولم اعد قادرة على الصمود…
..التهمتني الهواجس دفعة واحدة ولم اشعر بالدمعة الحارقة التي نفرت من عيني فجأة و تبعتها أخرى و سرعان ما شعرت بسيل ساخن من الدموع يغمر وجنتيّ… فكرة فقداني للبصر تكاد تقتلني…ووجه رافاد..وملامحه الهادئة الجميل..وليل عينيه الدافئ..كيف لي أن لا أرى كل ذلك من جديد..كيف لي أن أعيش بدون نور ابتسامته ونظراته المتعبة..كيف..
-أتبكين…
قال في لوعة…
اعتقدت أنه لن يلاحظ بكائي…لم يكن هناك ما يكفي من النور ليلاحظ ذلك..إلا أنه قال بنفس الهدوء…و نفس التعب…
كنت تخفين دموعك.. أتعتقدين أنى لا أرى دموعك في الظلمة….
في شرفة الطابق السادس..حيث أسكن..كنت أراقبه وهو يغادر بخطى ثقيلة كأنه مكره على الذهاب…كان يحمل حقيبته بتعب ..هذه الحقيبة كم سأشتاق إليها هي الأخرى…أصبحت جزء منه واصبح جزء منها…
كان يغيب شيئا فشيئا ..وكنت أراقبه بلهفة..أردت لآخر مرة في حياتي أن أطبع صورته في مخيلتي زادا لغد مظلم … وقبل أن يختفي إلى الأبد عن ناظري..لوح لي بيديه كما كان يفعل دائما..وفى تلك اللحظة تماما..مرّ من فوقه سرب من الحمام …
–
وبدأت رحلتي الأخيرة إلى اللاشيء…أصبحت أعيش حياتي في هدوء أشبه بالموت…..تلاشت كل الأحلام..انهارت كل قصور الرمل التي شيدتها بيدي الصغيرتين على رمال الشاطئ عندما كنت طفلة…ألم مقيت يخزني في أعمق نقطة من ذاتي…وهذه الغصة الحارقة التي تتبعني حيثما ذهبت…أحس باني قد تألمت بما يكفي..و خذلت بما يكفي…ولم يعد في جسدي مكان لجرح إضافي..ما عاد في قلبي مكان لفاجعة أخرى…ما عادت لي قدرة على احتمال آلام أخرى…لا ثقة لي في الغد…..رافاد..لقد ضقت بالحياة وضاقت بي…قلبي كالبيت المهجور تنفخ فيه الريح من كل جانب…لقد قلت أن الغد لا يعنينا…فنحن لا ننتمي سوى للحاضر ولا شيء غير ذلك..الحاضر هو ملكنا الشرعي الوحيد…وما عداه وهم و عبث…لكن حاضري هو الآخر ليس لي..لا شيء لي..كل الأشياء خذلتني…كل الأشياء كسرتني…كل الأشياء كسرتني..
أصبحت أدرب نفسي على حياة بدون نور…حياة…بدون ألوان…بدون طرقات..بدون حدائق..بدون قوس قزح..بدون فجر..بدون بحر…بدون غروب….بدون لوحات فنية..بدون أشجار..بدون ربيع..بدون خريف..بدون مطر..بدون ابتسامة أمي..بدون الخطوط الرقيقة التي رسمها الزمن على وجه أبي..بدون دموع أختي عندما يخذلها الحب للمرة الألف..حياة بدون النصف الأعلى من الكون..النصف الذي أحب….بدون النجمة الوحيدة المعلقة في السماء..النجمة الوحيدة الثابتة باستمرار…بوفاء دائم…وحياة.بدية….وحياة …بدون ملامح رافاد…..بدون عينيه المتعبتين…بدون ركننا المعتاد في المقهى…..ففي الظلام..تستوي كل الأماكن…..تستوي كل الملامح…تستوي الأيام…تستوي الصباحات والأمسيات….تستوي الفصول….وتستوي الأحلام..إن وجدت.. فأي حلم هذا الذي ينشأ في الظلمات..وأيّ حب هذا الذي يعيش دون صور..دون ألوان..دون ذاكرة…دون شيء يذكر…
كنت أنام ليلا على سرير من بكاء.. أسأل نفسي أن كانت هذه الليلة الأخيرة التي أبصر فيها الكون..الليلة الأخيرة في النور..وكنت كلما فتحت عينيا صباحا وداهمني شعاع الشمس المنبعث من نافذة غرفتي انتابني إحساس بسعادة عارمة..كأنه يوم عيد..أحس باني ربحت يوما إضافيا من النور..ربحت يوما إضافيا أتدرب فيه على العمى..
كنت أتنقل بين الغرف مغمضة العينين حتى أحفظ الطريق إلى الحمام والردهة والشرفة وحتى أحفظ أماكن الأشياء ورفوف الكتب رغم أنني سأحرم من القراءة إلى الأبد..لكني سأكتفي بأن أشتمّ رائحتها..لطالما أعجبتني رائحة الكتب الصفراء القديمة…درّبت نفسي على ارتداء ملابسي مغمضة العينين وانتعال حذائي وتدربت على وضع أحمر شفاهي وربط شعري بالطريقة نفسها التي اعتمدها وأنا بصيرة…
وأصبحت لي رغبة شديدة واندفاع رهيب إلى تخزين الصور ..كنت أجلس بالساعات إلى جانب أمي أتأملها كالمعتوهة.. كأنني أراها لأول مرة…أحاول بكل ما في داخلي من حب للحياة أن أخزن ملامحها في ذاكرتي لأستعين بها في ليلي الأبدي…وكانت المسكينة تفهم غايتي وتنتابها غصة شديدة و تحاول ما بوسعها أن تتجنب البكاء..لكنها في النهاية تخرج منديلها الصغير و تحني رأسها الجميل..وتبكي في صمت…
وفى الليل..كنت أقف الساعات الطويلة متأملة وجه السماء وأحاول أن أخزن في ذاكرتي منظر النجوم وهى تلمع باحتشام كحبات اللؤلؤ…
تدربت على الظلمة مرارا وتكرارا حتى تعودت الأمر…ويوم فقدت البصر…لم أبك..ولم تذرف عيني دمعة واحدة.. ليس لأني لا أريد البكاء فقد كنت احترق من الداخل…..وكنت أموت في اليوم ألف مرة …
لم أبك فقط لاني … اعتقدت ..أن من يفقد البصر..يصبح عاجزا عن فعل أي شيء..حتى على البكاء..
اشتقت إلى رافاد..مرت أشهر خمس على غيابي..ما عاد قادرا على الاحتمال..كان يطلب لقائي باستمرار..وكنت أماطل باستمرار…فكرت أكثر من مرة في الابتعاد عنه في صمت لأتركه يتابع حياته في هدوء لتكون حياة مضيئة…مشرقة كما أرادها أن تكون..لكن حاجتي المجنونة للمس وجهه وشعره وقميصه المتمرد كانت أقوى و أعمق من أفكاري…
وكان اللقاء…
ذهبت إلى مكاننا المعتاد ..كنت أشق طريقي في الظلمة لأصل إليه وقد اكتسب قلبي نبضة جديدة…..نبضة افتقدها منذ زمن…..في الظلمة… كنت أرى ركننا المعتاد من المقهى ..كنت أرى النور الخافت يغمرنا حبا ودفئا…..في الظلمة كنت اشق طريقي إلى رافاد..كنت أعدو .. لأمسك بطوق النجاة..لأرتمي في حضنه وانتحب …واصرخ إلى أقصى نقطة ألم في داخلي…ولا يهمني إن مت بعد ذلك…كنت أعدو في الليل الأبدي..وأتعثر..و أحاول أن امسك اللاشيء فيبتلعني الفراغ… واسقط على قارعة الطريق…وينتشلني المارة ..ولا اهتم بسقوطي.. عقلي ..وتفكيري..وجسدي..وكياني بأكمله مشدود إلى نقطة واحدة بدت كنقطة نور ضئيلة تخترق العتمة..تلك النقطة هي رافاد…كنت أتخيله واقفا باضطراب..ذلك الاضطراب الجميل الذي يعتريه دائما قبل لقائي..ساقه اليمنى لا تكف عن التحرك بتوتر…..يمسك حقيبته بيد..و باليد الأخرى السيجارة..و بعصبية ينفث دخانها ..ويتطاير الدخان في الهواء و يصنع أشكالا عديدة كثيرا ما تبدو لي كالأطياف تسبح في ملكوت الله وتسبّح له…وينظر رافاد في كامل الاتجاهات متوقعا ظهوري بين اللحظة والأخرى…أتخيله إذ يراني كيف يزداد اضطرابه وتردده…. بين معانقتي أو الاكتفاء بسلام بسيط كي لا يثير انتباه المارة..وتعلو الابتسامة محياه…كنت أرسمه بخيالي في العتمة…
على بعد خطوات مني ..كان يقف….استطعت أن أحس بوجوده..استطعت أن أشتمّ رائحته.. استطعت أن أرى التعب الجاثم في عينيه بصبر…واقترب مني…شعرت بأنفاسه تلفح وجهي وتكاد تخترقني.. اقترب مني إلى حد الخلود..لكنه لم ينطق حرفا واحدا……لم أكن اعرف إلى أين تتجه عيناي..إلى اللاشيء ربما..ففي العتمة تتساوى الأمكنة…لكنه كان يتأملني في تلك اللحظة..و ينظر بعمق في عيني… اعرف ذلك..لم يفتني أن احفظ حركاته عن ظهر قلب… وساد صمت طويل..عميق..أبدي..كليلي…وامتد الصمت..
لقد كان يبكي…
بصمت كان يبكي..بحرقة ….بلوعة…أدركت ذلك حين وضعت يدي على عينيه فتبلل كفي على الفور..كانت دموعه ساخنة..متأججة..ملتاعة…وحاول الصمود لكنه عجز ..فانتفض منتحبا …كان يحتضر أمامي وأنا في ظلمتي أعيش المخاض الأزلي وحدي…ووحدي..أصارع الظلمة وأحاول بكل ما في قلبي من حب للحياة أن انزع الستار القاتم عن عينيّ فقط لأرى دموع رافاد لأول مرة وآخر مرة في حياتي…لكن الظلمة أبت أن تنقشع و الليل أبى أن ينتهي…و همست باستسلام…
-كنت تخفي دموعك…أتعتقد أني لا أراها في الظلمة..
كانت الشمس تميل إلى المغيب..هذا ما قاله رافاد وهو يمسك يدي بقوة ويصطحبني إلى المنزل سيرا على الأقدام كما اعتدنا دائما..أصر على أن استقل سيارة أجرة لكنني رفضت و طلبت منه أن لا يغير شيئا في عاداتنا القديمة رغم كل شيء…ووافق رافاد على ذلك…كان ليفعل أي شيء …أي شيء… ليعيد النور إلى حياتي…
وأدركت أننا وصلنا إلى باب البناية حيث اسكن عندما انطلق صوت فيروز كعادته يسكر الكون…وتمتمنا معه بصوت خافت مرتعش تقطعه غصة حارقة…أنا لحبيبي وحبيبي الي..يا عصفورة بيضا لا بقى تسألي…ورافقني رافاد إلى الطابق السادس وتركني أمام الشرفة لأراه بقلبي وهو يمضي بخطى ثقيلة كأنه مرغم على الذهاب..ويده ممسكة بالحقيبة بتعب
..بقلبي رأيته وهو يبتعد..بقلبي رأيته وهو يقف آخر مرة قبل أن يبتلعه الطريق..بقلبي رأيته وهو يلوح لي بيديه..
وبقلبي..أحسست أنه في تلك اللحظة تماما..قد مر سرب من الحمام…