درس في الوفاء…
|اليوم اكتشفت …بأنّه لا وجود لنساء خائنات…ما عدا المهوسات منهن و هن مريضات و كل مريض معذور ..ما عداهن…لا وجود لنساء خائنات..بل هناك رجال يحثون على الخيانة…رجال لا يعرفون كيف يملكون إحساس الأنثى قبل جسدها…لا يدركون أن المرأة عكس الرجل …الرجل يحب بعينيه أولا..أما المرأة فتحب بقلبها …ثم يمتد ذلك الإحساس فينسحب على بقية حواسها….إن الحب يجعل للمرأة إلى جانب الحواس الخمس الطبيعية و الحاسة السادسة الدارجة في عرف النساء… حاسة سابعة…وهذا يذكرني بالمرة التي أحببت فيها..
أصابت بعدها بفترة زكام شديد …هاتفني رجلي الشرقي ليلتها يسال عن حالي فأجبته بأني قد فقدت كل حواسي..إلا حاسة الحب..بقيت صامدة شامخة لا مجال لانكسارها مهما اشتدت بي المحن و مهما شاكستني الحياة و سخر مني القدر…
أعود لأقول بأنه لا وجود لامرأة خائنة…إنما هناك رجل لا يعرف كيف يملك قلب المرأة و كيف يعاملها كما لو كانت قطعة من الماس ….يلمعها برفق و يمسح بلطف ما علق بها من غبار الحياة لبرز مناطق الإبداع فيها…هناك رجل لا يعرف كيف يشد المرأة إليه تدريجيا و بقوة الساحر بحيث ما تفتا تقترب منه و تتعلق به حتى تصبح ذات يوم قطعة منه…يسكنها كالطيف …ومن أنفاسه تستمد الحياة..يصبح هو الطقس الوحيد الذي تعرفه واللون الوحيد الذي تلبسه والديانة الوحيدة التي تعتنقها …و على وقع خطواته تستلهم فلسفتها في الحياة …
إن الرجل الذي لا يقدر على تعجيز المرأة بمواقفه الرجولية …من الإنصاف له أن لا يأمل كثيرا في تلقي قدر وافر من الوفاء….فالمرأة..و لئن أحبت إلى حد الجنون …فإن المعاملة السيئة تدفعها للخيانة …ليست خيانة من اجل الحب…..وإنما هى خيانة لإرضاء كبريائها..لتداوي مناطق الوجع فيها…لتنقذ ما تبقى من خضرة أنوثتها مع شخص آخر.. لا تحبه ربما…لكنه يعرف كيف يجعل من المرأة…أنثى بالمعنى الشامل للكلمة …
لم أكن اعرف معنى كلمة وفاء…بل كنت أمر بجانبها مرور الكرام…لم أتوقف مرة واحدة لأسال نفسي…ما مكانة الوفاء في حياتي…لم أتحمل عناء التفكير في الأمر…فكنت على قناعة مطلقة بأنه ما من شيء جدير حقا بأن أطور من اجله قيمة الوفاء في ذاتي …كل شيء كان بالنسبة إليّ زائلا أو باطلا …علمتني الأيام أن لا أثق بشيء…
في رحلتي عبر دروب الحياة…فقدت أجمل ما حصلت عليه يوما…براءة الطفولة و أشيائي الصغيرة…أحداث كثيرة ضاعت في زحام المواقف الحياتية المتداخلة و أشخاص أحببتهم رحلوا فجأة …هكذا… دون التمهيد لرحيلهم…دون إعطائي فرصة أخيرة لوداعهم..دون إعطائي فرصة لأتحضر نفسيا لفاجعة فراقهم…رحلوا إلى الأبد و لم يتركوا سوى بعض الصور و الأوراق البالية..و جرح عميق مسافر في دمي…
لم يكن عليّ إذن أن أؤمن بالوفاء أو أتعايش معه… بالنسبة إليّ….كانت الكلمة فى حد ذاتها مثيرة للسخرية …ليس لي إذن أن البس ثوبا ليس لي…وامثل دورا سخيفا لإمرأة شديدة الطهر ..مغلفة بأوراق السيلوفان…تسافر عبر القارات حاملة أنابيب من الماء المقدس.. و تنشر فى كل مكان تذهب إليه قيم الإخلاص والوفاء..
.نعم أقولها..لم أكن امرأة وفية يوما..و لم أؤمن يوما بالوفاء لشيء… أو لشخص…
حتى جاء اليوم الذي تهدمت فيه منظومتي الفكرية مرة واحدة…هو اليوم الذي ولدت فيه للمرة الثانية على شفتي رجل …كنت أتأمل كلماته المتهافتة في عذوبة و أحترق ألف مرة… و بين الحرف والحرف…كنت أموت ألف ميتة ..كانت عيناه متعبتين كالعادة…هادئتين كالعادة ..جميلتين كالعادة…عاشقتين كالعادة…كنت أترشف قهوتي وأتأمل النصف الأعلى من الكون…النصف الذي أحب…ذلك الذي لا أرى فيه سوى أغصان الأشجار ثم الفضاء الممتد إلى أقصى الكينونة ثم النجمة الوحيدة المعلقة في السماء…كان يتأملني بلهفة المحب ..و ينظر إليّ نظرة شاملة كأنه يرغب في احتوائي مرة واحدة وإدخالي إلى فجاج قلبه …ثم يلمس كفي و معصمي و يربت على كتفي و يقترب ليستنشق رائحة شعري و كأنه يتفحص كل جزء من جسدي ليتأكد من أن كل شيء بقي على حاله… و أنه ما من مكروه أصابني منذ آخر لقاء لنا….
دمعت عيناه فجأة وقال …أتمنى…فقط …أن لا أموت …قبل أن أتزوجك…
أصابني الذهول…وهو يتكلم …لم أكن انظر إليه…و حتى بعد إن سمعت ما قال…لم أقدر على الالتفات إليه…تجمدت في مكاني…خفق قلبي بصورة غريبة…و انحبست الدموع فى مقلتيّ رغم رغبتي الملحة في البكاء….
أحسست أني مشتتة فيه كأوراق الشجر المبعثرة على حافتي رصيف..
.لا وجود لامرأة خائنة…و لا وجود لامرأة غبية….المرأة …بقدرة قادر..تستطيع أن تشتم كذب الرجل على بعد مسافات طويلة…
كان صادقا…. و هو يقولها…..تلك الجملة التي شتت فكري و قلبت كل الموازين…كان كالطفل ..يحاول القفز ليصطاد نجمة من السماء…و في كل قفزة كان يحس بالألم ..و تدمع عيناه لكنه يعيد المحاولة من جديد و كله أمل بأنه سيحصل يوما ما على ما يريد…حاولت كسر حاجز الصمت رغم أن الكلام بعد ما قيل كان ضربا من العبثية و الجنون…
فقلت …أنت أروع رجل عرفته في حياتي …فأجاب مبتسما …بل أنا رجل عاشق..و هذا كل ما في الأمر…
نعم..كان رجلا شرقيا …نعم كان شديد الغيرة..
كان لا يطيق نظرات المارة إليّ.. لا يحتمل وجود الأرقام المجهولة في هاتفي … لا يعترف بصداقة بريئة بين رجل و امرأة…لا يؤمن بعلاقة أخوة بيني و بين أحد أصدقائه…لا يتسامح مع طبعي التلقائي الذي يفترض دائما حسن النية …كان شديد الحرص على طرد خيالات الرجال الذين من الممكن أن يفرض نسق حياتي ولوجهم إليها…كان ينفجر غضبا اذا احس و لو للحظة بأن ذكرا ما قد تمكن من تجاوز الجدار العازل الذى شيده حول حياتي بعناية و تعذبه فكرة ان يكون مهددا…و يضطرب….و تتداخل أفكاره وكلماته…و يندفع.. و يتراجع.. و يهدد.. و يتوعد.. و يحذر.. و يؤكد….و يغيب…و يعود… هادئا يعود…عاشقا يعود… أعنف و أكثر اندفاعا من ذى قبل….حنونا يعود..صادقا ..ضاحكا..متفائلا…مرهقا… و ما ان يرانى…حتى ينفض التعب عن كتفيه.. و من ليله الشاق الى ليلى الحالم يهرب…و يتدثر بعطرى…و ينام بين أهدابي كالرضيع…و تتلاحق أنفاسه ودقات قلبه كالمولود الجديد…
نعم..كان رجلا شرقيا…كان يصرخ أحيانا…و يعاتبني و ينتقدنى بشدة و يحاول فرض ارائه و يتمسك بمواقفه…لكنه كان يحميني من لفح الهواء.. و من مرور النسيم على شعري…كان يحميني من عيون الغرباء و الفضوليين… و من عينيه أحيانا ..عندما تفضحان رغبته و شوقه….و يعالج فتحة قميصي المتمرد حتى لا تكون ملفتة للانتباه …وكان كلما اقبل الى ركننا المعتاد من المقهى و اكون قد سبقته الى هناك اختزل لحظات الانتظار بقراءة او كتابة شيء ما..يباغتنى بسيل من القبلات على شعري و أطراف ثوبي …فأرفع عينيّ إليه كأني أعبد السلام المتدفق من مقلتيه…فاذا هو محاط بالملائكة من كل جانب…و كان كلما احضر الي شيئا ..حاول إخفاءه ببراءة الأطفال خلف حقيبته حتى يكون في مستوى المفاجأة…
على بعد أمتار قليلة…كانت إحدى صديقاتي تجالس شابا ..كان تواجدنا بنفس المقهى على سيبل المصادفة …و أدركت عندها.. بأن القدر يتعمد افتعال الأشياء و يحرك كل الخيوط….كان صديقها يدعى التفتح و اللامبالاة.. وهى معه..لم تكن أكثر من امرأة على الشياع…امرأة كالملك العام.. ..للجميع الحق في لمسها …و تأملها و مغازلتها و إشعال سيجارتها و مداعبة شعرها و مراقصتها …و هو جالس كغيره من أشباه الرجال يبتسم بغباء و يشجع الموقف ….كان يجالسها بحميمية و يتنفس دخان سجائرها و تتنفس دخانه القذر …و انتهى من تدخين سيجارته ..فانتقل إلى تدخينها هي …و اختفيا تحت الضوء الخافت الأقرب إلى الانعدام… و ما إن انتهيا …حتى تململ في مقعده مبتعدا عنها…و استلقى على المقعد بوضعية المستريح و اخرج سيجارة …و راح ينفث دخانها على مهل دون أن يلقى نظرة واحدة على الفتاة المطعونة فى كرامتها.. الجالسة بحماقة إلى جانبه ..
نظرت إلى رجلي الشرقي…فغمرني إحساس بالسعادة و الطمأنينة…..هذا الرجل الذي لا تصح مقارنته بغيره من الرجال…هذا الرجل الذي علمني أن الرجولة هي قبل كل شيء مواقف…الرجل الذي لم يترك لي فرصة واحدة للنظر بعيدا …كان اقرب إليّ من نفسي..بحيث أصبحت خيانته كخيانتي لنفسي…الرجل الذي لم يعتمد سياسة التلقين ليفسر لي معنى الوفاء…بل كان يتصرف بتلقائية الأطفال…بمذهب العشاق ..فعلمني دون أن يشعر..درسا في الحب..و الوفاء…الرجل الذي في كل مرة يلتقيني.. كانت لمساته…وكلماته تطهرني حتى أعمق نقطة في ذاتي …
و في كل مرة ..أتسمر في مكاني فقط لأتأمله..وهو يسير بخطى مضطربة حيث لا أدري…
كلما غادرنا ركننا المعتاد في المقهى..حيث كل أسباب السعادة تغمرنا بتساؤلات عن الغيب….حيث تترعرع احلامنا أمامنا…يمضي إلي حيث لا أعلم…و قبل ذلك..يشير إلي سيارة تاكسي..فتحملني و فكري المشتت..إلي حيث يجب أنأكون…وألتفت لأتأمله يبتعد..و يلتهمه الطريق…و تخنقني الأسئلة..إلى أين يذهب الأن.. امن دفئ… إلى صقيع الدنيا يذهب..أ يستقل الحافلة؟ أم المترو؟ أم يركب طيفا يشق به أجواز الفضاء ؟…أعلم أنه يمر بضائقة مادية……تفاصيللا تعني شيئا امام مواقفه الرجولية…الأجدر انه سيستقل الحافلة…..وسيمضي مباشرة إلى المنزل…..لكني من الآن فصاعدا لن أعذب نفسي بهذه الأسئلة…
ما شأني إلى أين يمضي و كيف…..ما دام في كل مرة…يمضي…..ليعود إليّ في النهاية…
ويقبل خصلات شعري