هواجس امرأة …تخرج من رحيل..لتدخل في رحيل…
|كنت أنظر إلى شاهين..و أتساءل…. من سيهجر من…من سيترك من..من سيذهب يوما ما دون رجعة ..دون أن يترك أثرا واحدا للغياب..من سيدمع عيني الآخر بقصد أو من غير قصد..من سيستسلم قبل الآخر ..من سيجرد نفسه من ثياب الحب قبل الآخر و يخرج إلى صقيع الدنيا غير مبال بالبرد و الثلوج و العواصف…
فى كل مرة كنت انظر إليه… كأني أسبق القصة إلى النهاية ..كأننا نقف على عتبة الفراق…
لقد دمرني الماضي..لم يترك لي فرصة أخيرة لأستمتع بالحب مع شاهين..لم يترك لي فرصة لأن أعيش هذه القصة دون حذر..دون خشية من معاودة السقوط كحمامة جريحة..دون التفكير في الفشل..في إمكانية الرجوع إلى الصفر…لقد دمرتني التجارب الماضية…جمدت رصيد العواطف داخلي..و جعلتني أبخل على شاهين بمشاعري..و أحسب خطواتي..و أدرس الكلمات و الهمسات و الحركات و أحاسب على الشاردة و الواردة..أصبحت أحاسبه على أخطاء لم يرتكبها ..و أحسسه بالمسؤولية قبل أوانها..أصبحت أحذره من محاولة التلاعب بمشاعري و تركي وحيدة على باب المتاهة قبل أن يفكر هو نفسه في ذلك..
كثيرا ما دمعت عيناي و أنا أتأمل التعب الجاثم في مقلتيه ..كان يبدو لي في غاية الوسامة و هو متعب …كان كلوحة نادرة متداخلة الألوان..الشعر الأسود الفوضوي المرهق..عيناه الحزينتان و اللون الأزرق الداكن الممتد حولهما ..و الخطوط الرقيقة التي رسمتها ثلاثون سنة من الحياة و الابتسامة الرقيقة الدافئة ..و فتحة القميص المتمردة…كنت انظر إلى تعبه و أشعر به يتسرب إلى أعماقي فيدمي فؤادي..كنت المس الوجع المتمسك بأطراف ثوبه ..و في داخلي ..كنت انتحب.
اكره هذا الإحساس بالعجز..لا قدرة لي على رسم الابتسامة على شفتيه…لا قدرة لي على المشي حافية على صفحات نفسه ..لا قدرة لي على البكاء معه ..من اجله…و أمامه…كم رغبت في الانتحاب بجنون أمامه و أمام العامة…كم رغبت في أن أنظف نفسي من رواسب الماضي فأبكي بحرقة و ألوث معطفه و قميصه الأبيض بأحمر شفاهي…كم رغبت في فعل ذلك…لكني مكبلة..مكبلة…مكبلة….هذا المجتمع الذي يقيدني بقوانينه البالية …هذا المجتمع الذي يخنق الحب قبل ولادته و يستنكر الإجهاض…الإجهاض حرام ..قتل النفس قبل الولادة حرام…أعوذ بالله…و حبي…هذا الوليد الذي لم يخرج بعد إلى الدنيا ..ألا يمثل خنقه حتى الموت جريمة قتل بأبشع الطرق مع سبق الإصرار …كم تظلمنا أيها لمجتمع بسخافاتك وخزعبلاتك…آه ما عدت أطيق العيش فيك..حاولت مواجهتك فإذا أنا أواجه أبشع ما في الحياة ..أخطر ما في الحياة…أعنف ما في الحياة…أنت الديكتاتورية التي ما سبقتها ديكتاتورية….أنت الغول الذي أخبرتني عنه جدتي عندما كنا صغارا و كلها قناعة بأنه موجود حتما في مكان ما …
كانت الأفكار تلتهمني بشراسة …وشاهين أمامي..يترشف القهوة الداكنة بتأن و يرمقني بنظرات المحب المتأمل المتألم ..كان يتأمل عينيّ و كأنه يقرا فيهما الغيب و يقبل معصمي بين حين و آخر كأنه يقبل الدنيا …أما أنا…فكنت أنام ..في عينيه..على سرير بكاء…
كنت أرغب في أن أعتذر له عن أفكاري…لكنى أخاف أن ينعتني بالجنون..أعرف أنه لن يفعل ذلك ..فالمحب يتقبل كل أفكار حبيبه حتى لو كان فعلا مجنونا…كنت أرغب في أن أصارحه بمرضي …أنا مريضة…أشعر بذلك ..اشعر بأني شديدة المرض…أتألم باستمرار و أفكر في ماهية الوجود باستمرار فلا أعطي فرصة لنفسي بان أعيش اليومي دون تفكير و دون ألم….و كأني شخصان منصهران في جسم واحد الأول يسأل و الآخر يبحث باستمرار عن الأجوبة…كأني أحارب الدنيا بأسرها و حدي….و أحمل على عاتقي آلام الصغار و الكهول و العجزة و الأجنة في بطون أمهاتهم…و الموتى و المجانين و ضعفاء العقل و المدمنين و المهوسين و الشاذين و الفنانين و الرياضيين و العاطلين عن العمل و السياسيين و المثقفين و المتخرجين من مدارس الحياة و المتمردين والمناضلين والمنافقين والمتلونين والمتجنسين و أحمل الماضي عبئا على كاهلي و أحتفظ بأدق تفاصيله…أخاف أن انفصل عنه كأننا ولدنا معا..أخاف أن ينفصل عنى فأفقد نفسي و أضيع في زحام الحاضر دونما رفيق…لكنى فعلا تائهة ..بل أنا في أعمق و اخطر حالات التيه…مرت عليّ أشهر طويلة على هاته الحالة ..فقدت القدرة على السيطرة على مسار حياتي…لم تعد الأشياء واضحة ..دخان كثيف يحجب الرؤية أمامي و على جانبيّ ..فألتفت إلى الوراء أطلب النجدة من الماضي …فإذا هو شديد السواد..كالح.. بارد …ساكن سكون الموت..لا نور فيه..كومة أخطاء ممتدة من سن بداية المراهقة إلى آخر جرح مسافر في صدري…أرغب بشدة في أن أنزع هذه الغشاوة القاتمة عن عيني…لكنى عاجزة عن فعل ذلك و احتاج للمساعدة …
شاهين…يا حبا وديعا مغامرا حاد عن مساره مع القطيع وولج إلى حياتي على سبيل الاكتشاف و النزهة فإذا به يسكنني كالوطن و يدثرني كما تفعل أمي في ليالي الشتاء…كيف لى أن أسعدك و أنا عاجزة على إسعاد نفسي…كيف لي أن احمل عنك هموم الدنيا و أنا احمل مرضا عضالا لا شفاء منه….كيف لي أن أراقبك و أنت ترهق نفسك يوما كاملا فقط لكي تحاذيني ساعتين في ركننا المعتاد بالمقهى و لا أستطيع حتى أن ألهمك الصبر على وجع الحياة…كيف لي أن أواصل معك السير بخطى ثابتة نحو المستقبل ..وأنا لا أزال مكبلة بآلام الماضي …و هذه الجروح التي لم تندمل بعد…كيف أعيش بها معك …لا بد لي من حل لهذا اللغز..لا بد لي من حل…لا أستطيع مواصلة العيش هكذا…لا أستطيع مواصلة خيانة الحاضر مع الماضي…لا أستطيع أن أواصل زرع العذاب في مقلتيك…عليّ أن أحميك منى …من يأسي و هواجسي…لا بد أن أبتعد بمخاوفي حتى لا تصيبك العدوى…لا بد أن اذهب قليلا ..فقط لأشفى تماما ثم أعود…نقية الذهن…..جديدة الإحساس….حتى لا أنظر ثانية إلى عينيك الهادئتين لأقول بأني لا أريد الزواج بك…حتى لا أخاف ثانية من الحب…حتى لا أخشى ثانية من فقدانه…حتى أعيشه كما يجب ..و أستمتع به إلى آخر رمق…و أمضي معك إلى أقصى حلم….انتظرني قليلا….لأني سأعود…وقبل الذهاب …أريدك أن تعلم بأنك الرجل الوحيد الذي يداويني…الذي اكتملت به …الذي انتصرت معه…أنت الحب الذي اقبل عليّ في ربيع عمري…في أجمل فترة في حياتي..وأنك الحب الحقيقي الوحيد في حياتي…