لو كان التضامن رجلا…
|تركت المترو يتجاوز محطة التحرير حيث أقطن و نزلت بكل فضولي و لهفتي في حي التضامن أحث الخطى نحو منزل عمتي..
في حي التضامن..عند الباب، استقبلتني ابنة أختي و جعلت تقص علي نبأ النيزك الذي وقع في الحي قبل قليل..سألتها إن كانت تمنت أمنية عند رؤيته..فتطلعت إليّ في عجب ولاحظت: ” ظننت الأمنية مرفقة برؤية الشهاب!”..فضحكت و أجبتها: “لا تنسي أن تتمني أمنية حلوة كلما وقع شيء من السماء أو ارتفع إليها شيء!”..
كم تستعصي على العد أمنياتنا التي أطلقنا داخل الصدور الوجلة، في تلك الأيام السوداء..أيام الثورة التونسية وأنا أتجول ذات مساء في أحد متاحف” بيكين”..أشار إليّ أحد موظفيه بأن ألقي قطعة نقدية في وعاء ماء فضي ضخم و أتمنى أمنية..
ألقيت بكل القطع الصغيرة التي أحمل و زدت فألحقتها بورقة من فئة 10 يوان..
و تمنيت!..ضحكت الموظفة و سألتني:” من أي البلاد أنت؟”فأجبتها:”أنا من بلاد للأمنيات فيها ثمن أغلى دائما!”..
غلبني النعاس فاستسلمت للنوم ككل مرة أقضي فيها الأمسية في التضامن..(و أتساءل:
لم يجتاحني كل ذلك الاستسلام اللذيذ لقيلولة غافية في أكثر الأحياء اشتهارا بانعدام الأمن ؟”)
..عندما استيقظت..(كحالمة بعد ليلة حب) رافقت أختي إلى” الحي” للتسوق!…أصوات الباعة، حركة المتسوقين، رائحة الثياب المستعملة و البخور، ازدحام النسوة حول دكان السلع الصينية،الأغنيات الشعبية المنبعثة من المقهى أو من دكان بيع الزرابي، عراك بين بائعة(تكد كي لا تأكل بثدييها) و بائع رجل يزاحمها حول الحيز الجغرافي لـ”بسطتها” الصغيرة، صراخ الأطفال، ضحكات الصبايا، تمتمات شيخ بدأ يضجر من شيخوخته، رائحة الخبز و الهريسة العربي و التوابل و الخضر و السمك..
و الحياة!الحياة بكامل تألقها و زخمها الدافئ هي تلك التي تحرك هذه الآلاف من الأرواح البشرية و تدفع بها لملاقاة صعوبات الحياة و معاركة الزمن..
طيلة ثلاث سنوات، تعودت أن أقضي أمسية الأحد من كل أسبوع في حي التضامن..و أكاد أجزم أن كل أولئك التونسيين الذين يبتسمون في سخرية كلما ذكر اسم الحي ستسنح لهم معايشة تجربة وجودية فعلية لو أنهم قضوا أسبوعا واحدا في حي التضامن!
ليس ثمة حي يشقى بمتساكنيه و لا سكان يحملون لعنة أحيائهم..بل ثمة أحياء بأهاليها محكومة بأن تدفع النصيب الأوفر من فاتورة الشقاء المواطني في بلد لا يحسن الإنصاف بين أبنائه..كأب غير رحيم..
في غرفتي بالمبيت في بيكين..كنت ألتهم على “النت” صفحتي الفايسبوك و الجزيرة فأعيش الأحداث كأنني في الوطن..
في تلك الأيام عرفت في التضامن أنهجا لم أمش فيها من قبل، ودورا لم أدخلها و لم أتعرف الى سكانها,ودكاكينا لم أقتن منها شيئا..
عرفت أرضا غير الأرض و سماء غير السماء..كان الحي يتحرر من لعنته كمارد جبار..
-“التضامن برجالها”-..يصرخ بثورة الشباب في جسده ليزلزل الأرض من تحت أقدام جلاديه و يرد ب”كل حزم” على جحيم السماء المفتوحة رصاص غدر فوقه..
لم يكرم الغضب بطولة في الثورات و يدان إجراما بعدها؟ومن ينقذ الرجولة المهدورة في أحياء عديدة في بلادي على بلاطات الجريمة كحل يائس أخير أمام الأبواب الموصدة في الوجوه؟
عند مغيب الشمس بدأت رحلة العودة إلى التحرير..اعترضتني دورية أمن و دبابتان في طريقها إلى التضامن..ابتسمت لرؤية الجندي الملثم أعلى الدبابة و في القلب رجفة..
لم أشأ أن أجهر بدعائي أن تمر الليلة على خير(حتى لا يحسبني القوم نهضوية!ههه)..
فكتمته في صدري كتلك الأمنية التي احتفظت بها لنفسي في متحف بيكين و لم أنطق بها..كثير من الأشياء تفقد جماليتها عندما تغادر عتبة اللسان كدعاء خاشع أو أمنية حلوة أو عشق لذيذ ..
أو كتلك الرائحة التي التصقت بثيابي و غمرتني إذ اختلت بي في درج البناية
في” التحرير”.. رائحة “التضامن”!..ظلت تتبعني حتى البيت و لم يبد عليها أنها
تعير اهتماما لحظر التجول المفروض…..
ثمة مدن و أحياء لا نسكنها، إنما هي تسكننا و تمارس داخل شراييننا تجوالا غير مشروط..
عريها من التصنع و بعدها عن الزيف هما بطاقتها البيضاء التي بها تدخل بيوتنا و ضمائرنا..
وليس عليها أن ترتدي اسم “النصر” أو “المنزه” أو “المنار”أو أحد أنهج” سيدي بوسعيد” لتكون حيا تونسيا لا شمعدانا نعلق عليه وحده كل خطايانا و آثامنا..
عندما دلفت الى الشقة..سألتني أختي عن الأجواء في “الحي”اليوم..أجبتها في نبرة عاشقة:”لو كان حي التضامن رجلا لأحببته!”