في المسرح الرحباني: “بترا”…رسائل مشوّشة

بقلم: حمزة عمر

Petratearsكانت “بترا”، الّتي أخرجها برج فازليان وعرضت لأوّل مرّة سنة 1977 بعمّان، ختام رحلة فيروز مع المسرح. ولئن استمرّ الأخوين رحباني في تقديم مسرحيّات غنائية في الثمانينات (“المؤامرة مستمرة” سنة 1980 و”الربيع السابع” سنة 1981) فإنّه يبدو أنّها لم تحقّق النجاح المعهود، ولعلّ ذلك كان ممّا دعاهما إلى الرجوع إلى موروثهما السابق، فأعادا تقديم مسرحيّة الشخص سنة 1982 حيث عوّضت رونزا فيروز في دور “بيّاعة البندورة”.

ولعلّ أكثر ما تحفظه الذاكرة عن مسرحيّة “بترا”، فضلا عن كونها ختام مسيرة ناهزت العقدين من المسرح الغنائي، ذلك المشهد الذي دمعت فيه عينا فيروز على المسرح وهي تؤدّي دور الأم/الملكة الثكلى. كما أنّ أغنية “بيقولوا زغيّر بلدي” تقوم شاهدا على قدرة الرحابنة الفائقة على التكثيف. لكن فيما عدا هذه الإضاءات، قد لا يكون هناك الكثير ممّا يحفر هذا العمل في البال…

يغادر الملك مالك الثاني (جوزيف ناصيف) مدينة بترا على رأس جيشه لمقاتلة الرومان، وتخلفه زوجته الملكة شكيلا (فيروز) في الحكم طوال مدّة غيابه. يتسلّل الضابطان الرومانيان لايوس وباتريكوس (أندره جدعون وأنطوان كرباج) مع تجّار القوافل إلى المدينة ويحاولان إيجاد سبيل لترجيح كفّة روما في المعركة، ويتوصّلان إلى خطف “بترا الصغيرة” ابنة الملكة…

لئن كانت شخصيّتا مالك الثاني وشكيلا (أو شقيلاث) ثابتتي الوجود التاريخي، فإنّه يصعب تصنيف المسرحيّة كعمل تاريخي نظرا للتباين الكبير بين الوقائع وأحداث المسرحيّة. فعهد مالك الثاني لم يكن عصر ازدهار في عمر المملكة النبطية، بل كان بداية انحطاطها وتراجعها، إذ خسرت جزءا كبيرا من ممتلكاتها، وخاصة دمشق، واضطرّ مالك الثاني إلى التعاون مع روما ومدّها بقوّات عسكريّة في بعض حروبها. وذلك ما يطرح التساؤل عن سبب اختيار الشخصيتين. لم لم يختر الرحابنة مثلا الحارث الرابع الذّي كان عهده أوج المملكة النبطية، والذي حقّق انتصارا كبيرا على هيرودوس سنة 37 م؟ بل لم وقع الاختيار على الحضارة النبطية أصلا؟ هل ذلك لأنّ عرض المسرحية الأوّل كان مبرمجا منذ البداية في الأردن؟ مهما يكن من أمر، فالمسرحيّة تقدّم رواية مغلوطة عن مجريات الأحداث، ممّا يجعلها “فنتازيا تاريخية” في أفضل الأحوال، عكس مسرحيّة “أيّام فخر الدين” (1966) مثلا، والتّي كانت وفيّة إجمالا للوقائع التاريخية…

تpetraphotoمتدّ المسرحية على ساعة ونصف من الزمن، منها ساعة تقريبا تسبق الحدث القادح (خطف بترا الصغيرة) وتمرّ برتابة، إذ أنّها تكتفي بعرض بعض المشاهد من بلاط الملكة فضلا عن تقديم شخصيّتي لايوس وباتريكوس، مع وجود حبكات جانبية كان من الممكن الاستغناء عنها (قصّة الحبّ بين هلا وصالح مثلا). وتلعب الصدفة دورا بارزا في التحوّلات التي تشهدها القصّة: يلتقي المعلّم صدفة بالضابطين ويخبرهما، بسذاجة، أنّه يدرّس ابنة الملكة، فيخطّطان لخطفها رغم أنّ ذلك لم يخطر ببالهما من قبل. ثمّ يستمع بابيروس، صدفة كذلك، إلى تحاورهما ويخبر الملكة بالمؤامرة. بتواتر الصدف، لا يربط بين الأحداث سوى ما هو أوهى من خيط العنكبوت (يذكّرني ذلك بروايات جرجي زيدان عن تاريخ الإسلام).

ولا يؤثّر انقلاب الأحداث على الشخصيّات التي يمكن القول أنّ جميعها تقريبا ذات بعد واحد، ولا تتطوّر بشكل لافت. لنأخذ مثلا شخصيّة المعلّم. تبدو ملامحه منذ البداية: غزير المعرفة مع تنطّع وغرور وسذاجة. حتّى عندما يتسبّب، بإهماله، في خطف بترا الصغيرة لا نرى منه فيما بعد ندما أو محاسبة للذات، بل نجده يدخل في حوار مازح مع بابيروس لا يفعل سوى أن يؤكّد المعالم الأولى لشخصيّته. وإذا ما استثنينا الملكة وباتريكوس (وربّما لايوس بدرجة أقلّ)، لا نرى لبقيّة الشخصيات الأخرى من أثر يذكر في الأحداث، وكأنّها لم تكن إلّا جزءا من الديكور العام، ويشمل ذلك فنّانين في حجم نصري شمس الدين وهدى حدّاد.

لنقف قليلا عند الملكة وباتريكوس، الفاعلين الرئيسين في المسرحية. لا تظهر الملكة (فيروز) في المسرحيّة إلّا وهي في تمام جلالها وهيبتها. لا تتعامل مع الجميع إلّا بـ”ملكيّة” وكأنّها من طينة غير طينة باقي الناس، حتّى أنّنا لا نراها تنفرد بابنتها أبدا كي نلمس منها بعض مشاعر الأمومة (البشرية).  حتّى نبرة صوتها لدى الحديث مع الجميع تنضح بالتعالي. يذكّرنا ذلك بشخصيّة “غربة” في مسرحية جبال الصوّان (1969)، رغم أنّه في رسالة غربة ما يبرّر ترفّعها. من الواضح أنّ الرحابنة كانوا يحاولون بناء نموذج للقوّة التي لا تلين والعزم الذي لا ينثني. صحيح أنّها تتأثّر لخطف ابنتها، ولكن حينما تُساوم على إطلاق سراحها، لا تبدي ذرّة من التردّد في الرفض، ولم تنطق (أو بالأحرى تغنّي) بعد ذلك إلّا اعتذارا لابنتها ورثاء لها. اتّخذت الملكة خيارها بسهولة عجيبة: لا بدّ أن تموت الطفلة لتحيا المملكة.   ليس الخيار في ذاته مستغربا (خاصة بالنظر إلى المثاليات الرحبانية)، وإنّما غياب أيّ صراع داخلي (أو حتّى خارجي) يجعل الملكة تتردّد ولو للحظة. هنا لا يعود الأمر متعلّقا بالقوّة والتمسّك بالمبادئ، وإنّما يُطرح التساؤل عن مدى حضور عاطفة الأمومة لدى الملكة. وهذا ما يدخل بعض البلبلة على رسالة المسرحيّة ذاتها إذ لا يصبح للإعلاء من تضحية الملكة معنى، باعتبار أنّ فيه من البرود والقسوة ما يكاد يجعله غير بشري.

هذا التشويش في الرسالة يبدو أوضح مع شخصيّة باتريكوس التي صيغت لتمثّل قطب الشرّ في المسرحية (على غرار فاتك المتسلّط في جبال الصوّان والملك في ناطورة المفاتيح (1972) )، كما هو الحال عادة في العالم الرحباني القائم على ثنائية مانوية. لكن لا نملك إلّا أن نعجب ولو قليلا بباتريكوس. لا يتردّد هذا الضابط الروماني الرفيع في اللجوء إلى أيّ وسيلة ممكنة لنصرة وطنه، ثمّ لا يتردّد في أن يضحّي بروحه من أجل انتصار روما، ويقول ببساطة أنّه جندي، وجاء ليموت، ويجرؤ أن يصرخ أمام الملكة “تحيا روما”. إذا أضفنا ذلك إلى الأداء المميّز للغاية لأنطوان كرباج، وحواره مع لايوس (الذي يمكن اعتباره أعمق ما في المسرحيّة)، نجد أنّ شخصيّة باتريكوس تكاد تطغى على شخصّية الملكة نفسها، لولا أنّ فيروز تظلّ فيروز…

ولا يزيدنا التماهي بين اسمي المدينة والطفلة الملكية إلّا تشويشا…قُبيل المشهد الختامي، يصيح المنادي “انتصرت بترا” فتهمس الملكة: “وماتت بترا”. تماثل الإسمين يجعلنا نشكّ أنّ الوطن قد مات بانتصاره، وأنّ الفرح الملطّخ بدماء صبيّة بريئة لا يمكن أن يكون إلّا دمارا، وهو ما يؤكّده السياق التاريخي، بما أنّ المملكة قد ضُمّت إلى الإمبراطورية الرومانية سنوات قليلة بعد وفاة مالك الثاني. ولكن بهذا التفسير، تصير التضحية الجسيمة الّتي قد قدّمت دون تردّد فداء للوطن عبثيّة أو تكاد، وهو قطعا غير ما أراده الرحابنة…

وإذا كان من المعتاد أن يضحّي الأخوان رحباني بتماسك البناء الدرامي الذي لا يكون أكثر من ذريعة لتقديم عدد من الأغاني التي تظلّ خالدة ولو نُسيت المسرحية، فإنّنا لا نجد ضالتنا في “بترا”. باستثناء “بيقولوا زغيّر بلدي”، التّي تلخّص في أقلّ من دقيقتين المثاليات الوطنية الرحبانية، لا نعثر في هذه المسرحيّة على ما يمكن أن نضيفه إلى لائحة الأغاني الشهيرة للرحابنة. هناك إحساس ما لدى سماع مختلف المقاطع المغنّاة أنّها معفّرة بالغبار. ساد شيء من العتمة تلك الروح النقيّة المعهودة، حتّى أنّنا نجد بعض المقاطع التي قد لا تليق بشاعريّة العملاقين، كما في “على عين الميّة يا سمرا”.

وتمكن مقارنة هذه المسرحية بمغنّاة “زنوبيا” التّي قُدّمت لأوّل مرّة في معرض دمشق الدولي سنة 1971. فرغم تباين الشكلين، نجد  تماثلا في العناصر المكوّنة للمشهدين (البعد التاريخي، الملكة كشخصيّة محورية، روما كعدوّ خارجي غاشم، التضحية…) وفي زنوبيا، ينجح الرحابنة في تكثيف ذلك كلّه، ببنية درامية محكمة، في أقلّ من تسع دقائق، ملحّنة بالكامل، وتتداخل فيها هيبة الموسيقى العسكرية برقّة المحبّة التي تجمع الملكة بشعبها (وهو ما فشلت “بترا” تماما في إبرازه). وإذا شئنا الإيجاز، يمكن أن نعتبر “بترا” تمطيطا غير موفّق لـ”زنوبيا”. ولعلّ تعكّر حالة عاصي الرحباني الصحيّة ألجأت أخاه منصورا إلى تحمّل العبء الأكبر في المسرحيّة، وهو ما أثّر نوعا ما على مستواها العام بما أنّ تقسيم الأدوار كان على غير العادة مختلّا.

ويظلّ من العبث أن نبحث عن رابط حقيقي بين ما كان يعيشه لبنان آنذاك وبين وقائع المسرحية. ففي مثل ظرف الحرب الأهلية، كان يمكن أن نتوقّع مسرحيّة تعرض صراعا أخويّا (من طراز “جسر القمر” (1962) ). ولكنّنا نفاجأ بصراع بين الأهالي وعدوّ خارجي غاز. في ذلك الحين، لم يكن الكيان الصهيوني قد اجتاح لبنان بعد، والوجود العسكري الخارجي كان مقتصرا على القوّات السورية، ويبعد تماما أن تكون هي المعنيّة. على الأرجح، لم يكن الوضع في لبنان في أذهان الرحابنة قابلا للحلّ، إلّا بتضحية كبرى (كما في “مسرحيّة جبال الصوان”) يُفدى فيها الوطن بالدم. أمّا عن ماهيّة التضحية وصاحبها، فقد كان تشوّش الوضع يمنع من تبيّنه…

Please follow and like us:
2 Comments

اترك رداً على رياضإلغاء الرد

Verified by MonsterInsights