إيتيقا الحب

 بين أفلاطون وباديو وفوكو

بقلم: حياة حمدي

ومما يمض النفس، أنه بينما أجهد الناس أنفسهم في مدح تلك الأشياء جليلها وحقيرها لم يجد أحدهم الشجاعة على مدح الحب بما هو أهل له.”

 

               أفلاطون، المأدبة، 177 ج

 

وسئل حماد الراوية عن الحب ما هو؟ فقال: الحب شجرة أصلها الفكر”

أحمد تيمور، الحب عند العرب

 

 

 

ثمة ما يدعونا إلى الجزم بأن ما دفع إحدى شخصيات محاورة المأدبة لأفلاطون إلى أن يستغرب من عدم الإقدام على تقريظ الحب بما هو أهل له من قبل علماء عصره هو في الحقيقة ضرب من الاستنكار الذي لم يفقد راهنيته رغم عدد القرون التي تفصلنا عنه. إننا اليوم إذا ما نحن نظرنا فيما تقوله الفلسفة في الحب لا بد أن ندرك شحة هذا القول وهي التي اقترن اسمها باسمه * فيلو صوفيا * ومن هذا الاسم اشتق معناها العابر للعصور والأزمان والألسنة على اختلافها. إنها حب للحكمة حبا لا يدعي امتلاكها وله ما يكفي من الشجاعة للإقرار بفقره إليها وشوقه للتشبه بها. ولعلنا اليوم ونحن نشهد الصيغة الحديثة لفقرنا بفعل نسياننا لما هو الحب ندرك أننا نشبه معاصري أفلاطون ممن مدحوا الملح ومآدب الطعام وكل ما يتعلق بالحاجة وتغاضوا عن جليل الأشياء إلى حد صار” ما نسميه اليوم حبا في الثقافة السائدة ليس إلا الشكل الفاسد له”[1].

 إنه إذن لأمر جدير بالبحث فيما قادنا إلى أن ندير عالمنا الحديث إلى إسقاط الحب في النسيان بينما رأى فيه محب الحكمة القديم ما نتعرف فيه إلى أنفسنا وعلامة وجودنا الراغب في العالم.

ولكي نفهم مدى ابتعادنا عن هذا الضرب من الوجود بل وعن أنفسنا، لا بد أن نذكر بما حدثنا به أريكسماخوس في محاورة المأدبة نقلا عن فايدروس الذي لم يفتأ يقول له ” أي أريكسماحوس إذا كان للآلهة أغان وأهازيج ينشدها إياهم الشعراء أليس من العار أن شاعرا فردا ـ وهم كثر ـ لم يفكر في إنشاء مديحة لأعظم وأقدم إله وهو إله الحب؟ ودونك مربونا المحترفون فإنهم قد مجدوا هرقل وغير هرقل نثرا. وأضرب المثل ببروديكوس العظيم، ولعل هذا لا يدهشك كثيرا. ولكن ما قولك في عالم جليل يؤلف كتابا موضوعه تمجيد الملح ومدح منافعه ومزاياه وغير هذا كثير وكثير جدا.. ومما يمض النفس، أنه بينما أجهد الناس أنفسهم في مدح تلك الأشياء جليلها وحقيرها لم يجد أحدهم الشجاعة على مدح الحب بما هو أهل له”.[2]

ونحن نورد هذا القول لا بد من التنبيه إلى أن غرضنا هنا ليس استئناف النقاش حول عظمة أو ألوهية إيروس ذلك أن سقراط قد فصل في الأمر منذ ذلك اليوم الذي انتعل فيه حذاء واستحم على غير عادته وعيا منه بأن الحديث حول إيروس هو من الشؤون الإنسانية بالغة الأهمية وهو لذلك يحتاج إلى استعداد خاص من قبل الفيلسوف وهو مقبل على مواجهة منافسين له في حب الجميل ينتجون حوله خطابات بارعة ومغرية ينالون بفضلها جوائز ويحظون بالتكريم من أولي الأمر ويضفي عليهم الجمهور أمجادا وألقابا تعلي من شأنهم وتحط من شأن الفلسفة الراعية للسماء كما يظهر ذلك من مسرحية السحاب للشاعر الكوميدي أريسطوفان.

أما سقراط فقد تنكر في ثوب جميل ومظهر جذاب يخفي قبحه الجسدي كي يدرك من حوله من ذوي الألسنة من الخطباء والشعراء الذين يؤلهون إيروس ويجملونه قولا ومظهرا أن إيروس ليس إلها مثلما ادعى خطباء المأدبة وإنما هو رغبة في شيء لا نملكه وبالتالي فهو ليس جميلا في حد ذاته إذ أن جماله يقاس بالغاية التي يوجه إليها أي مثل أو قيمة الخير. هنا يجتمع الفقر مع الغنى وما الحب عندها إلا ذلك التحول من الفقر إلى الغنى ومن الجهل إلى المعرفة ومن الحب الجسدي إلى حب ما ينقصنا على وجه الحقيقة أي الحكمة. هذا التحول الذي جاء على لسان ديوتيما يقتضي منا عدم الوقوف عند الاسم كما لو كان هو عين الشيء. ذلك أن الاسم كما علمتنا محاورة كراطيلوس لا يدل على حقيقة الشيء فأن نسمي إيروس إلها فإن ذلك لا يعني أننا أدركنا حقيقته الكامنة في الرغبة البشرية كما أن مهمة وضع الأسماء تعود إلى الجدلي أي إلى الفيلسوف لأنه يدرك العلاقة القائمة بين الاسم والشيء ومن هنا نفهم دعوة سقراط إلى العودة إلى الشيء نفسه لإدراك كنهه.

لقد كان وعي سقراط حادا بخطورة المسألة إذ أنه مقبل على فعل بالغ الخطورة فذهابه إلى منزل الشاعر التراجيدي أغاثون بمناسبة احتفاله بجائزة عن آخر مسرحياته يعني قبوله بوضع الحب بين يدي ” مشرع سكران ” كما هو حال من يضع الأسماء في محاورة كراتيليوس[3] وكما هو حال ندماء المأدبة ممن نهاهم سقراط عن الإفراط في السكر. ومن هنا نفهم دلالة دعوته إلى الاعتدال في احتساء الشراب [4] وإخلاء المجلس من عازفة القيثار حتى لا يذهب اللحن بعقول المتحاورين في شأن هذا الأمر المهيب أي الحب

ألا يكون إيروس هو الدال على الحب كما يراه سقراط فإن ذلك ما يدعو إلى إعادة النظر في علاقة الاسم ـ إيروس ـ بالشيء أي بالحب. نقرأ في محاورة كراتيلوس هذا الحديث المتبادل بين سقراط وهرموجينس الذي يرى أن العلاقة بين الأسماء والأشياء قائمة على مواضعة واتفاق بينما ذهب كراتيل إلى التأكيد على العلاقة الطبيعية بينهما:

 سقراط: وعمل المشرع أن يطلق الأسماء. ويجب أن يكون العالم بفن الجدل مرشده إذا كان ينبغي للأسماء أن تطلق بصورة صحيحة.

هرموجينس: هذا صحيح

سقراط: أظن إذن يا هموجينس أن إطلاق الأسماء هذا لا يكون مسألة تافهة كما تتخيل ، ولا عمل أشخاص قليلي الشأن أو أناس كيفما اتفق. وكراتيلوس على حق في قوله بأن للأشياء أسماء بالطبيعة، وأنه ليس كل إنسان خبيرا في إطلاق الأسماء، لكن الخبير هو ذلك الذي يهتم بالإسم الذي يملكه كل شيء بالطبيعة، وهو الذي يستطيع أن يعبر عن الصور الحقيقية للأشياء بحروف ومقاطع.

ندرك من هنا اختلاف حديث الفيلسوف في الحب عن حديث الشعراء الذين يتحدثون عنه وهم يجهلون ماهيته بينما يسعى الفيلسوف إلى البحث في حقيقة الحب فبمثل هذا البحث يمكننا معرفة الفرق بين إيروس وفيليا وبين الحب الجسدي وحب الحكمة وبين الإيروسي والفلسفي.

 إن كلمة إيروس كما جاءت في لغة اليونان القديمة، حسب قول سقراط، إنما سمي كذلك لأنه يجري للداخل من الخارج، وهذا الجريان ليس متأصلا فيمن يكون لديه ، لكنه يبدأ من العيون، ولهذا السبب كان يسمى في الأزمنة القديمة إيسروس ـ تدفق واشتهاء واندفاع وبما هو كذلك فهو “جريان او حركة تتعلق بانضمامك إلى شخص آخر أو إلى شيء آخر[5]. ومن هنا ندرك أن حقيقته وإن كانت في البدء “جريانا” إلا أنه جريان يشتاق إلى غاية خارجه فلا ينالها إلا بالعودة إلى الداخل أي إلى النفس.

وإذ أتى هذا التعريف بمناسبة البحث في النفس والجسد فإن الحب هو إذن شأن إنساني خالص ولا معنى لتسميته إلها مثلما دأب الشعراء على ذلك إذ ظنوا أن اسمه دليل على عظمته “ولكن الاسم، يقول سقراط ، قد أصبح صورة زائفة لدرجة أنك لا تستطيع أن تعرف المعنى “. [6]

إن هذا المعنى هو ما تنبئنا به محاورة المأدبة حينما تكشف ديوتيما عن حقيقة إيروس بما هو وسيط أو هو نقطة التحول من الاسم إلى الشيء ومن الجهل إلى المعرفة ومن القبح إلى الجمال فما بين بداية المحاورة ونهايتها ” يقع ضرب من التحول في معنى إيروس. يتعلق الأمر في البداية بالحب الجسدي. ثم بعد ذلك لا يتم رفض هذا الحب أو الانتقاص منه، وإنما يستمرّ، ويعمل التحول الذي يقع على إنعاشه وإضاءته”[7]. من هنا ندرك الفجوة التي أحدثها خطباء المأدبة بينهم وبين المعنى الحقيقي للحب.

 هذه الفجوة التي وضعها خطباء المأدبة بينهم وبين الحب إذ لم يدركوا إلا مظهرا منه يبدو أنها هي عين الفجوة التي وضعتها الحداثة الفلسفية بينها وبين الحب. فلكم يشبه وضعنا اليوم وضع من قصدهم سقراط من حديثه ذاك حين اشتبه عليهم الاسم والشيء فلم يدركوا المسافة بينهما.

إن هذا الاسم قد أصبح في زماننا هذا أيضا صورة لما يسميه غولدشميدت ” قيمة زائفة”[8] لدرجة أننا لم يعد بمقدورنا الإنصات إلى معناها الحقيقي كقيمة إيجابية في عصر تكاثرت فيه منصات الدردشة وتطبيقات التعارف افتراضا وواقعا. لقد حدث ذلك كما تنبه ماركس بسبب أن مجتمعاتنا الرأسمالية الحديثة قد سلعنت كل شيء بما في ذلك القيم وعلى رأسها قيمة الحب. لكن ذلك يبدو أنه حدث أيضا بسبب صمت الفلسفة عن أن تقول قولا في الحب. حدث ذلك منذ أن عرفت نفسها باعتبارها لا حبا للحكمة كما يدل أصل العبارة وإنما باعتبارها تبحث عن المعرفة الحقة وعن اليقين وهو تعريف يلغي الحب ويلقي به في النسيان، من هنا يمكننا القول مع جان لوك ماريون بأن” تاريخ الفلسفة هو تاريخ نسيان لأصلها أي للحب [9]. ومن ثم – يضيف ماريون ” يجب كشف مكون الحب ” [10] حتى نتمكن من فهم هذا النسيان لعل ذلك يسمح لنا بتجاوز صمت الفلسفة عن قول الحب وأن نجعل الحب من جديد قضية فلسفية وبالتالي استعادة قدرتها على أن تقوله من داخلها لا من خارجها.

 

 إننا لا ننفي هنا قدرة الشعر والأدب عموما على الغوص في أعماق النفس الإنسانية وخاصة إذا ما تعلق الأمر بالحب. وإننا لننبه هنا إلى أن غرضنا ليس إنكار ما يقال في الحب في الخطابات الأخرى وإما هو استئناف الدعوة التي جاءت على لسان باديو أي دعوته إلى إعادة اختراع الحب من داخل الفلسفة نفسها رغم إقرار بعض فلاسفة عصرنا بأن الفلسفة ليس لها ما تقوله في الحب. ولكي يصبح ذلك ممكنا، فإن أولى شروط إمكانه هو فهم ما جعلها تسكت عن قوله.

 

 

صمت الفلسفة

 لئن تواصل البحث في ظاهرة الحب وفي الظاهرة الإيروطيقية عموما مع الفلاسفة الهيلينيين وحتى الوسيطيين كما هو الأمر مع القديس أوغسطين مثلا، فإن الفلسفة الحديثة في ” لحظتها الديكارتية” [11]على حد عبارة فوكو يبدو أنها قد أحالت القول في الحب إلى الصمت. بل إن فوكو يذهب إلى حد التصريح بأن تبخيس الحب ونزع القيمة عنه ابتدأ من تلك اللحظة التي تعيّن على أنها لحظة الفكر الغربي في ” العصر الحديث”. إن ذلك هو ما يمكن الاستدلال عليه من الكوجيتو الديكارتي الذي يرد الأنا إلى الفكر وحده كمحدد لماهيته حيث أنه نزع عنه كل انتماء إلى الرغبة وإلى الجسد إلى حد أصبح فيه نقد ~الكوجيتو الحسابيّ الذي استحال اليوم إلى ما يشبه الكوجيتو “التجاري” النشيط في أعياد الحب مدخلا لنقد الحداثة ومراجعة المبادئ والقيم التي تأسست عليها.

غير بعيد عن فوكو يقف آلان باديو اليوم مدافعا عن الحب، كاشفا وضعه في حاضرنا هذا. فقد اجتمعت عليه أقول علماء يشبهون ندماء سقراط في محاورة المأدبة، حيث نجد الطبيب والكاهن والإعلامي يدعون في الحب معرفة وهم لا يفعلون غير المتاجرة به. إن “الحب اليوم مهدد “[12] يصرخ باديو وأننا نعيش في عالم استحال فيه الحب الى اتصال لا الى التقاء. وإن حصل لقاء فلقد تكفلت أدوات الاتصال ببرمجته نازعة عنه كل لون وكل طعم. في إحدى فصول كتابه الذي وضع له عنوان ” الأسود ” يحدثنا باديو عن ” الجنسانية المبكرة ” سنوات مراهقته فيشبهها بالقارة السوداء حينما كان أبناء جيله لا يعرفون عن الحب إلا ما قدم لهم في صور المجلات المشبوهة الي كانوا يتصفحونها بعيدا عن أعين الرقيب. أما اليوم، يضيف فيلسوف الحب، فإن الأمر لا يتطلب سوى نقرة صغيرة على لوحة مفاتيح الكومبيوتر حتى تظهر للأطفال، بالألوان والحركة، كمية هائلة من العراة وشبه العراة، يموجون تبعا لتسميات تجارية على قدر من الصرامة مماثل لتلك الموجودة في محال السوبر ماركت…كل هذا لا يترك شيئا في الظل، لا شيء على الإطلاق، باستثناء الحب، ربما، العصي على الاختزال إلى حالة منتج استهلاكي في متناول اليد على طاولة الكمبيوتر”[13].

 هكذا يكون المجتمع الرأسمالي المسلعن للجنس كما أدرك ذلك ماركس ومن بعده باديو، قد نزع عن الجنسانية كل ما يمكن أن يكون ضربا من التجربة الاصيلة والعميقة للغيرية.

غير أن أكثر ما يسترعي انتباهنا هنا هو الفصل الذي يقيمه باديو بين الجنس والحب لكأنه بذلك يستأنف التمييز السقراطي القديم بين إيروس والحب كما صوره سقراط في محاورتي المأدبة وفايدروس وهذا لعمري ما يجعل من العودة إلى سؤال ما الحب مهمة عاجلة علنا بذلك نستعيد معناه الحقيقي دون السقوط فيما يسميه باديو منطقة السواد.

وإن من طرق مغادرة منطقة ” السواد” تلك تقويض خطاب المحدثين عن الحب حيث آل الأمر إما إلى نسيانه كما سبق وأن بينا وإما إلى الوقوف منه على طرفي نقيض بكراهيته تارة وبإيلائه مقاما تنعدم فيه فعاليته تارة أخرى.

 

كراهية الحب

إن التظنن على الحب وإخراجه من دائرة الفكر يتجلى في أوضح صورة مع فلاسفة أعلنوا صراحة كراهيتهم للحب أو هكذا وصفهم باديو في كتابه “تقريظ الحب”. [14] ومن بين هؤلاء نجد شوبنهاور الذي ذهب في كتابه ميتافيزيقا الحب إلى حد اعتباره شعورا مثيرا للشفقة، فما نخاله حبا، يقول شوبنهاور، لا يعدو أن يكون انجذابا فيزيقيا خالصا ليس له من هدف سوى التناسل وهو أمر لا يحتاج إلا إلى اتصال بين جسدين يكون هدفه استمرار النوع البشري، إن الحب ضمن هذا التصور الميتافيزيقي له ليس إلا ” غريزة مقنعة” [15]تجمع بين شخصين بغاية إشباع حاجة فيزيقية خالصة.

وعلى الطرف الآخر مما يمكن أن يظهر لنا أنه مناقض لتصور شوبنهاور، نجد من بين فلاسفة الحداثة من ذهب إلى تناول الحب ضمن مقاربة وجودية مغلفة بالإيمان. ذلك ما نستشفه من تصور سورين كيركغارد الذي ربط تجربة الحب بالقلق واليأس والموت وغيرها من ” الأهواء الحزينة” كما يسميها سبينوزا.

وفي ربطه بين الحب والإيمان يذهب كيركغارد إلى وضع سلم جدلي يرتقي عبره الحب من المرحلة الجمالية الحسية حيث يكون الإنسان منغمسا في شهواته وملذاته الحسية فيكون عندها كائنا لا يعبأ بالأخلاق ولا ينضبط لقواعد السلوك السامية ولا يكترث بقانون حتى يصل إلى حالة من فقدان الأمن الشخصي فيصيبه يأس شديد وقلق مرعب [16]، أما المرحلة الثانية فهي المرحلة الأخلاقية وفيها يرتقي الإنسان إلى مدارج السمو ما يمكنه من بلوغ المرحلة الإيمانية بالتخلص من الخطيئة بوضع في حضرة الله وحده لا غير، ولئن وجد هيدغر في أطروحة كيركغارد ما يمكننا تعلمه في علاقة ” بتجربة القلق” [17]فقد وجد فيها باديو ضربا من الإغراق في الذاتية المنغرسة في الشعور الديني[18].

 إزاء هذه التصورات الميتافيزيقية والدينية للحب التي تتراوح بين التنذيل والتقديس، نرى من الوجيه استئناف دعوة باديو إلى “إعادة اختراع الحب” اختراعا نأمل أن يقودنا إلى فلسفة جديدة يكون فيها الحب مقاما للاختلاف واقتدارا على خوض تجربة حية في العالم.

 

إعادة اختراع الحب

يتراءى لنا بناء على ما سبق أن السبيل إلى اختراع معنى فلسفي جديد في الحب يكون حتما بمساءلة الفلسفة ذاتها عن قولها فيه، هذا القول الذي وجدناه متراوحا بين طرفي نقيض أي بين التنذيل والتقديس، بين الحيونة التي ترادف بين الحب والنزوع الطبيعي إلى الإشباع والتملك من جهة والتأليه، الذي يرفع الحب إلى مقام إلهي متوسلا الأخلاق الدينية من جهة أخرى ذلك إذن هو الوضع الذي استخلصه باديو[19] من تاريخ العلاقة المتوترة بين الفلاسفة والحب عدا بعض الاستثناءات القليلة، وهو يدعونا إلى أن ننظر إلى الحب من جديد كحدث ولادة ، ولادة عالم يخرج فيه الحب من دائرة الواحد الذي يغلق الذات في ما يشبه الدور والعود الأبدي إلى الذات عينها منفتحا على فضاء الالتقاء بالعالم نفسه وبالآخر شريطة أن يكون هذا اللقاء في غير معناه الليفيناسي وترديداته الثيولوجية.

أن نعيد اختراع الحب فإن ذلك يعني في نظر باديو بناء علاقة يكون فيها الواحد مع الواحد مساو لاثنين لا لواحد كما علمتنا ميتافيزيقيات الحب. هذا الكلي الجديد الذي ينشئه باديو يجد في الحب إمكان العبور من الفرادة الخالصة للمصادفة إلى ما هو كلي في الحب أي إلى إمكانية خوض تجربة العالم من داخل أفق الاختلاف لا ضمن دائرة الهوية[20] ، بهذا المعنى وحده يمكننا الحديث عن بناء ايتيقي للحب أي بناء للعلاقة الغرامية المدركة لقيمة الاختلاف بين الشخصين المتحابين من جهة وعنصر المحايثة الذي يكمن في حدث الالتقاء بينهما من جهة أخرى. إن هذا البناء الايتيقي للحب هو الذي يضمن ديمومته لا بقاءه وذلك ضمن مسار غني يستبدل الأهداف بالغايات ويحّول العوائق إلى ممكنات خلاقة ومنفتحة على ضرب جديد من الزمانية. ربّ وضع يستدعي دخول الجسد إلى ركح الحب. فبعد أن فصل باديو بين الحب والجنس ها هو يمايز بين الحب والصداقة، لكأن باديو يقول هنا إن الحب علاقة غرامية بين شخصين يتبادلان الحب بينما تكون الصداقة علاقة مدنية في معناها الأرسطي أي معناها السياسي.

هذا البناء الايتيقي للحب يقتضي فيما نراه توفر جملة من الشروط التي تتغير بموجبها نظرتنا للحب ضمن إطار الاختلاف من جهة وأفق الديمومة من جهة أخرى. وأول هذه الشروط هو تغيير المنظور الذي تم النظر من خلاله إلى الحب أي ذلك الحب منظورا إليه ومنظرا له من جهة الانفعالية أي من جهة كونه انفعالا سلبيا دال على مرض النفس ومعاناتها وآلامها وأحزانها مما يدفعها إلى البحث عن طرق الخلاص. إن الحب إذا ما نظرنا إليه مثلما نظر إليه أفلاطون ومن بعده باديو يصير فعلا لا انفعالا. لكن دخول الحب إلى دائرة الفعل يقتضي أولا فضيلة الشجاعة إذ هي الشرط الايتيقي الذي يسمح للذات بأن تنضم إلى الآخر دون أن تسعى إلى أن تكون سلطة تهدف إلى الهيمنة عليه باستخدام أدوات الإكراه والعنف. ذلك هو ما نقصده من عبارة شجاعة الحب شرط أن ننظر إلى الشجاعة هنا كفرونيزيس و كباريزيا إيجابية بالمعنى الذي صاغه فوكو في كتابه “شجاعة الحقيقة” [21]لا كالتقاء الوجه بالوجه على المعنى الذي ذهب إليه لفيناس.

 

شجاعة الحب

في محاورة لاخيس وهي المحاورة التي خصصها أفلاطون لموضوع الشجاعة يقترح علينا محاورو سقراط أي لاخيس ونيسياس جملة تعريفات للشجاعة ينتهي الأمر بسقراط إلى تفنيدها. ولئن أجمع الشراح على أن هذه المحاورة السقراطية لا تنتهي إلى تعريف واضح ونهائي للشجاعة إلا أننا نجد فيها إشارة دالة عليها ضمن حديث سقراط. إنه حين يفند تعريف الشجاعة بكونها إقبالا على خوض المعارك دون خوف أو بكونها شهوة الانتصار في ساحة الحرب فهو بذلك يضع الشجاعة لا في دائرة الإقبال المتهور وإنما في دائرة الفرونيزيس. وفي دائرة الفرونيزيس هذه ينبهنا سقراط إلى فضيلة الإدبار حين يكون مآل الإقبال الهزيمة أو الموت. نعم لقد مات سقراط من أجل الحب لكن موته لم يكن عن إرادة منه بقدر ما كان نتيجة إكراه هو في الحقيقة كره لما يمثله أي للفلسفة.

 وقياسا على ذلك يمكن أن نقول إن شجاعة الحب تكمن في هذه الحركة المزدوجة بين إقبال وإدبار، ولنا في محاورة المأدبة ما يمكن أن يكون مدخلا لهذه الحركة المزدوجة، فالحب مأخوذ هنا على جهة الإقبال إذا ما تعلق الأمر بالفلسفة أي بحب الحكمة والرغبة الشجاعة التي يفتقدها أمثال ألقيبيادس الإيروسي حين ظن أن حب الحكمة يكمن في حب شخص سقراط وفي التقرب منه والجلوس إلى جانبه. إن الدرس السقراطي هنا يفيدنا بأن الحب يتجاوز اللذة العابرة للذة ويستقر كديمومة في صلب الكينونة أي كحب مشروط بالوفاء لموضوعه الأسمى أي الخير. هذا الخير الذي، بتوسط الجمال، يصيرا فكرا. إن الحب بهذا المعنى فعل لا انفعال وهو تفكير لا مجرد شوق شغوف[22] ، ولأنه فعل فهو يقتضي ضربا من التعقل الحكيم ومن جودة الروية تسمح للمحب بالفصل بين الخير وضديده وبين الظلم والعدالة وهو أمر يقتضي شجاعة شبيهة بشجاعة سقراط أي باعتداله لا بتهوره

 

شجاعة الحب وشجاعة الحقيقة ؟

لقد أظهر سقراط لحظة دخوله منزل الشاعر أغاثون المحتفل بحصوله على جائزة أفضل شاعر أي لحظة بقائه في فناء المنزل مستغرقا في التأمل قبل مواجهة المنافسين له في معرفة الحب، لقد أدرك سقراط أن الحديث في الحب يقتضي ضربا من الشجاعة التي لا تتوفر في من يتحكم في سياسات المدينة أي الخطباء والعلماء والسفسطائيين ورجال السياسة الذين كانوا مجتمعين ليلتها في منزل الشاعر أغاثون، غافلين عن الفرق بين إيروس والحب. فالأول، أي إيروس، يعود تدبيره إلى المشرع أي واضع القوانين ومن هنا نفهم بعده السياسي[23] الذي كشفه لنا ليو شتراوس في قراءته لمحاورة المأدبة. أما الحب فهو شأن خاص بالفيلسوف، هو ممارسة فلسفية وهو فضيلة لا يقدر عليها أمثال ألقيبيادس. إن شجاعة الحب تكمن في إدراك الفيلسوف ممانعة المدينة أي البوليس للحب وبالتالي للفلسفة مقابل تمجيدها لإيروس بغاية الهيمنة عليه واستخدامه كأداة لتلك الهيمنة وهي التي تدعي تأليهه. وهذا ما تكشفه لنا  “المأدبة كمؤسسة سياسية” مثلما تأولها ليو شتراوس إذ كان على سقراط أن يتوخى الحذر من ألاعيبها البلاغية وإغراءاتها وإرادة التغلب على الفلسفة في مجال اشتغالها أي مجال الإيروس الذي يرمز إليه في المحاورة منزل الشاعر أغاثون الحائز على جائزة الدولة في التراجيديا… ومن هنا نفهم لماذا كان عليه أن يلبس قناعا ليبدو جميلا في نظر نبلاء ومستنيري أثينا في ذلك الزمان، هنا بالذات نلتقط لحظة الإدبار بما هي لحظة مكونة للشجاعة. شجاعة الحب كأساس لشجاعة الحقيقة الفلسفية التي لا تقال كلها وإنما هي تضطر أحيانا إلى ضرب من التقية والمداورة كي تضمن بقاءها في المدينة [24].

إن شجاعة الحب تقتضي إذن عدم الخلط بين الإيروطيقا الفلسفية والإيروطيقا السياسية كي لا يقع الخلط بين الفيلسوف والسياسي من جهة وحتى لا يذهب في ظننا أن المدينة متسامحة مع الفلسفة حتى تترك لها مجالا لقول الحقيقة مثلما نبهنا إلى ذلك ليو شتراوس في قراءته لمحاورة المأدبة [25]ولحقيقة العلاقة بين الفلسفة والسياسة ذلك أن إيروس الفيلسوف ليس هو عينه إيروس السياسي سواء أخذناه في صورته القديمة مع ألقيبيادس أو في صورته الحديثة مع الأمير الميكيافللي الذي يفضل البقاء على الديمومة. بهذا المعنى يكون الحب الفلسفي شجاعا، خلاقا لأفق مقاومة السائد ومقارعة ذوي الألسنة حول حقيقته وفاعليته واقتداره على الخلق إذ أن همته متعلقة بغاية أخرى غير الحفاظ على البقاء والرغبة في التملك والإشباع والهيمنة.

الهوامش

  1. Antonio Negri et Michael Hardt, Commonwealth, traduit de l،anglais par Elsa Boyer, Stock, Paris, 2012, p/ 496
  2. أفلاطون، المأدبة، 177 أ
  3. نفس المرجع
  4. نفس المرجع
  5. أفلاطون، محاورة كراطيلوس، ، 39- ده
  6. نفس المرجع
  7. جان هيرش الدهشة الفلسفية، ترجمة محمد آيت حنا، منشورات الجمل، بيروت/ بغداد، 2019 ، ص. 51
  8. Victor Goldschmidt, Les dialogues de Platon. Structure et méthode dialectique, Paris, PUF, p. 91
  9. جان لوك ماريون، ظاهرة الحب: ستة تأملات، ترجمة يوسف تيبس، المؤسسة العربية للترجمة، 2015.
  10. نفس المرجع
  11. إن معنى العقل في قاموس الحداثة هو الحساب
  12. Alain Badiou, avec Nicolas Truong, Eloge de lamour, Champs essais, Flammarion, Paris, p.14
  13. ألان باديو، الأسود، ترجمة جلال بدلة، دار الساقي، 202،4 ص 31
  14. نفس المرجع، ص 40
  15. شوبنهاور، ميتافيزيقا الحب، ص. 21-22
  16. عبد الجبار الرفاعي، الحب والإيمان عند سورين كيركغارد، دار التنوير للطباعة والنشر، لبنان، بيروت، 2016، ص 23
  17. نفس المرجع.
  18. Badiou, op. cit., p. 15
  19. باديو ، ن.م.، صفحة 23
  20. باديو ، ن.م.، ص 26
  21. فوكو، شجاعة الحقيقة: حكم الذات وحكم الآخرين، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 2022.
  22. ليو شتراوس، حول مأدبة أفلاطون، ندوة في الفلسفة السياسية، نقلها وقدم لها صالح مصباح، معهد تونس للترجمة، تونس 2023، التصدير
  23. نفس المرجع، ص. 34.
  24. يتجلى ذلك في جملة المداورات التي يجريها سقراط كلما تعذر عليه قول الحقيقة. انظر أيضا معنى الباريزيا السقراطية كما شرحها فوكو في شجاعة الحقيقة ضمن دروسه في الكوليج دي فرانس لسنتي  1982 و1994 حول حكومة الذات والآخرين حيث يكتب فوكو ” فوكو: “أعتقد أن الارتباك والالتباس في العلاقة بين الفلسفة والسياسة راجع إلى رغبة الآراء الفلسفية في اعتبار نفسها (…) عقيدة فلسفية […] ويجب أن تظل الفلسفة والسياسة في علاقة دون أن يحدث تداخل بينهما؛ يجب ألا يتزامنا معاً. وهذه هي الفكرة العامة التي يمكن أن نستخلصها من نص أفلاطون“.
  25. للتعمق في طبيعة العلاقة بين الحب والهيمنة وبين الفلسفة والسياسة، انظر شرح ليو شتراوس لمحاورة المأدبة، ندوة في الفلسفة السياسية، نقلها إلى العربية صالح مصباح والصادرة عن معهد تونس للترجمة، تونس، 2022

نُشر هذا المقال بمجلّة حروف حرّة، العدد 37، شتاء 2025

لتحميل كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf37

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights