تجلّيات الكوني في أدب المقاومة والنّضال بالكلمة: أشعار محمود درويش نموذجا*
|بقلم: فاطمة الحرزلي
مفهوم الكوني مفهوم متشعّب الدلالات، ومشترك بين مختلف الاختصاصات، لذلك رُمنا أن نُنزّله في إطاره المعجمي حيث جاء في لسان العرب أنّ الكون: الحدث، وقد كان كونا وكينونة وهي مصدر مشتق من كان (أي الوجود)، وهو مصطلح فلسفي يتعلق بالكليّة وجمعها كليات يكون بمثابة الحقائق الأوائل التي يشترك فيها الإنسان أينما كان وهو ما من شأنه أن يكون نمطيّا.
وينضوي الكوني تحت المجال القيمي الأخلاقي فتكون بذلك الإنسانية واحدة ممّا يُيسّر العيش المشترك، فالإنساني بذلك يدلّ على الخصائص المشتركة بين الناس تميّزه عن الحيوان كالعقل واللغة… وهذه الأخيرة (اللّغة) تعدّ كلّية مشتركة بين جميع الألسن البشرية وفقا لنظريّة الأوائل الدلالية Les primitifs sémantiquesلصاحبتها آنا ويرزبيكا Anna Wierzbicka ثمة خصائص لسانيّة تنسحب على كل الألسن وهو
ما أشار إليه وليام كروفت في كتابه “الأنماطية والكليات” أنّ الأنماطيّة هي مقارنة عابرة بين الألسن على نحو ما بمعنى أنّه ثمة قوالب تُشكّل عليها الألسن وبالتالي تكون كليات لغويّة سمتها التعميم.
فهذه الأوائل هي كليات، وبالتالي يكون الكلي متعارضا مع الجزئي والسطحي والساذج والدغمائي والبراغماتي نحو أفق الوحدة والتعالي. وما يجدر بنا ذكره هو علاقة الكلي بالإنساني الذي يتميّز بالوحدة واللحمة، فهل يمكننا اليوم الحديث عن الكليّ في إطار الحرب على فلسطين المحتلّة وما ينجرّ عنها من مضايقات عشوائية ومجازر أصبحت تُنعت بالإبادة الجماعيّة؟
مفهوم المقاومة
جاء في قواميس اللغة العربية أنّ المقاومة هي المعارضة ورفض الخضوع لإرادة الغير، وهي درء عن النفس من كل الشّرور ومواجهة وعدم الاستسلام …، وهي صنفان؛ مسلّحة وسلميّة، وهذه الأخيرة هي الصنف الذي سيكون عليه محور حديثنا، وتكون بدورها على ضروب عديدة كالتّظاهر والاعتصام والكتابة أو ما يعرف بالنضال بالكلمة، وتكون مع أرباب الوعي والفكر كالشعراء الغيورين الذين لا تزيدهم أحداث الاحتلال إلا إطلاقا لألسنتهم للصدح بالظلم والاستبداد والتنديد بوحشية المستعمر وإثبات للوجود وللبقاء “ما بقي الزّعتر والزيتون” على حد عبارة محمود درويش الذي يُعدّ أبرز الشعراء الثّوار الأحرار، بل هو شاعر الأرض المحتلّة بلا منازع على حدّ عبارة رجاء النّقاش.
النضال بالكلمة عند درويش
يمثّل محمود درويش وأشعاره مدرسة شعريّة ضمن ما يعرف بأدب المقاومة وهي تسمية أطلقها غسّان كنفاني على أدب فلسطين لأنّه ليس من الهيّن أن تكتب في ظلّ الاستعمار وتكون الكتابة بحجم الإبداع الذي بلغته أشعار درويش وحتى فيما كتب من نثر، وفي هذا الإطار نشير إلى الكلي بماهو مطلب طوباوي يصعب وجوده فيما كتب درويش من شعر وطني متعدد الموضوعات التي تنضوي تحت مفهوم الحرب، كالأسر والردع والتعذيب والتجويع والإقصاء وغيرها، ويتساءل درويش تساؤلا انكاريا عن اشتراك جميع البشر في الأرض الذي يرى أنّ الفلسطيني مقصى منها، وبالتالي لا يمكننا الحديث عن الكوني بما هو مشترك بين جميع الناس المدّعين بذلك، يقول:
وأسأل يا سيداتي
ويا سادتي الطيبين
أأرض البشر لجميع البشر
كما تدّعون
ويرى محمود درويش أنّه في وطنه فاقد للحرية بما هي حق لكل الشعوب وحق لكلّ إنسان على وجه الأرض إلا الفلسطينيّ الذي اعتبره درويش أسيرا داخل وطنه وبالتالي يتلاشى مفهوم الكليّ، يقول في قصيدته ”حالة حصار“:
هنا
عند منحدرات التلال
نفعل ما يفعل السّجناء
وأحيانا يكون نضال درويش طلبا لتحقيق مطلب الكلي بما فيه من عيش مشترك من خلال الدعوة الموجهة للغُزاة إلى الكفّ عن الغزو، وقد كانت في خطابه نبرة لوم وعتاب وتقريع إذ يقول في نفس القصيدة:
أيّها الواقفون على العتبات
ادخلوا
واشربوا معنا القهوة العربية
قد تشعرون بأنكم بشر مثلنا
فقد كان مطلب درويش وشعبه ممارسة اليومي بما فيه من شرب القهوة وتصفح للجرائد ولعب ولهو في سلام، يقول في نفس القصيدة:
أيها الواقفون على عتبات البيوت
اخرجوا من صباحاتنا
نجد الوقت للتسلية
نلعب النّرد، أو نتصفح
أخبارنا
في جرائد أمس الجريح
هذا اليومي الذي هو بالنسبة إلينا ممل هو مطلب وطموح وغاية للفلسطيني الذي يختزل اليومي عنده في الغزو والقصف والدمار والجوع والعراء …
ورغم كل هذه المعاناة، يسعى درويش لإثبات هويّته والدفاع عن نفسه ضدّ الاضطهاد الذي يصبّه الصّهاينة على الإنسان العربي من خلال التقزيم والتجريد من القيمة بالتالي لا يمكننا أن نتحدّث عن الكلي فيما يتعلّق بالهوية لأنّ الفلسطيني يعتبر أنّها قيمة مسلوبة منه وهو في وطنه، وهذا ما أشار إليه درويش في قصيدة “سجّل أنا عربي” يقول:
سجل
أنا عربي
ورقم بطاقتي خمسون ألف
وأطفالي ثمانية…
بهذا المعنى يظهر درويش الذي يمثّل نموذجا للفلسطيني، الذي يحسّ بالدونيّة وفقدان أبسط حقوقه داخل وطنه. يظهر ذلك منذ أول قصيدة قالها وهو طالب بالصف الثامن بمناسبة إقامة دولة إسرائيل، وقد كانت بمثابة الصرخة من طفل عربي إلى طفل يهودي: ” يا صديقي بوسعك أن تلعب تحت الشمس كما تشاء. بوسعك أن تصنع ألعابا لكنني لا أستطيع. أنا لا أملك ما تملكه. لك بيت وليس لي بيت، فأنا لاجئ. لك أعياد وأفراح وأنا بلا عيد”… فدرويش هنا يدعو إلى الكوني والانفتاح على الآخر الذي يقصيه ويلغيه ويعامله كعدو.
* قُدّمت هذه المداخلة في إطار أنشطة ”المقهى الفلسفي“ بدار الثقافة ابن خلدون المغاربية
نُشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 34، ربيع 2024.
للاطّلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf34