قصة “نيرة” لكلثوم عياشية: أرحب من قضية لون… أضيق من احتضان الكون
|بقلم: رجاء عمّار
نيرة هي قصة موجهة لليافعين أساسا، غير أن ذلك لا يمنع بطبيعة الحال أن يطلع عليها من تجاوزوا هذه المرحلة العمرية، وتبقى مسألة التجاوز مرتبطة بالسن لا غير، فكل شخص يحافظ داخله بدرجات متفاوتة على الطفل الراغب في التعلم المستمر من التجارب والحريص على التأمل والتساؤل وعدم الركون إلى صور منمطة بما أنّ الفكر في وضعية نشوء مستمرة، ما يفسح المجال إلى مراجعة بعض المقولات التي تم التسليم بيقينيتها على غرار “ما بالطبع لا يتغير” و “بعد ما شاب، هزوه للكتاب”، و”ليس بالإمكان أفضل مما كان”، و”هذا ما وجدنا عليه آباءنا…”، وغيرها من جمل لا تعترف بقدرة الإنسان على الارتقاء والتحسن أخلاقا ومعرفة، فما الذي أرادت أن تخبر به نيرة -القطة التي أتيح لها المجال لتسرد وتصف دقائق تجربتها؟ هل اقتصرت في قصتها على محور واحد للاهتمام أم عرضت قضايا أخرى جديرة بالتفكر وإعادة النظر؟ هل وفّقت في بلوغ مرماها أم تعثّرت بعراقيل الأحكام المستبطنة التي كشف عنها خطابها العفوي ممّا قلّص من كفاءة حجّة القبول المطلق بالاختلاف؟ هل اقتصر الأمر على نقل وقائع مع تركيز على هدف محدد دون التمحيص في متطلبات التخييل ما قلص من حظوظ فرادة من الضروري حضورها في عمل إبداعي؟
لا يمكن بعد الاطلاع على قصة نيرة إنكار القيم النبيلة التي تم السعي لتجذيرها دون استعراض خطابي أو أسلوب وعظي وإدراج لثنائية المقبول والمرفوض والجيد والسيء، وإنما الاكتفاء بسرد سلس يشجع القارئ على التفاعل واتخاذ موقفه بشأن القضية التي يبدو لوهلة أنها تمحورت بشكل مطلق على اللون الأسود ورمزيته، وما يجابهه صاحبه من رفض لاعتبارات عدة.
تمت المحافظة على هذه السمة السردية المرتكزة على محاورة القارئ ضمنيا حتى السطر الأخير الذي ورد في صيغة استفهام “هل للشر لون؟” (ص.59)، ما يجعل الحوار مفتوحا مستمرا، وهو المطلوب لأن هناك وعيا أن قصة واحدة لن تقدر على تغيير ما رسخ في بعض العقليات ودمغها، وإنما دورها زعزعة الحكم المسبق ومساءلة مدى الحاجة إلى التخلص من مخزون رمزي متوارث دون تقييم أو تعديل، وحتى الاعتقاد بعدم الركون إليه وهم لأن التعامل مع المواقف في ظرف معين تجعله يطفو ويطغى على الفكر والسلوك.
يتواصل تمرير الرسائل دون تكلف، فيتجلى مثلا التأثير الإيجابي للأم على ولديها واتخاذها قدوة بصفة طبيعية دون حاجة إلى دروس كلامية، كما أن قضية اللون سبقتها أخرى، وإن لم يتم التصريح بذلك، ألا وهي قضية الجنس، وعدم التفرقة بين ذكر وأنثى، فحتى الكائن نفسه “نيرة” تحدثت عن نفسها في البداية بصيغة المذكر -“انتبهت مذعورا..(ص.9)..أو أبتعد حذرا… أخذت أتنقل في البيت مغامرا.” (ص.19)، وهو ما يلغي الفوارق المتوهمة مع الإبقاء على الخصائص التي تصب قيمتها في المساهمة في دورة الطبيعة ومتطلباتها لا غير.
عانت نيرة من الرفض الذي كلّفها في بداية الأمر طردا، ولم تنعم بصفة كاملة بعيشة هنية رغم حسن الاعتناء؟ إذ تتالت المضايقات وأدركت ألا حدّ لها، ولا تستطيع إقصاء التوجس والخشية اللّذين ينغصان الهناء، لكن، هل تعتبر شخصية نيرة نفسها مثالا جيدا لقبول الاختلاف؟ هل استنتجت من تجربة حياتها كيف تنظر إلى غيرها بعين الرحمة أم أنها الضحية التي لا تتوانى عن لعب دور الجلاد، ما يجعل السلسلة الرمزية للشر لا تنكسر باعتبار أن الإيذاء فعل ينتقل كالعدوى؟
ورد في “الإهداء: إلى القطط الشريدة”، هل يمكن اعتبار القطط التي تحيا في الشارع تعاني تشردا أم أن ذلك مكانها الطبيعي وليس في الأمر تجنّ أو ظلم، واعتبار إبقائها في الشارع عوض الرعاية المنزلية مصيرا فيه شقاء: “فليتركه يواجه مصيره في الشارع أفضل” (ص. 25). ألا يجانب هذا العرض الواقع، وينحو نحو المبالغة فالمغالاة غير المقبولة؟
هل هذه القصة حقا مهداة للقطط “الشريدة” أم هي موجهة لتلك المنعمة فحسب انطلاقا من تجربة نيرة ونظرتها لغيرها من القطط، نظرة صرحت فيها بما يعتمل في نفسها من عدم قبول للاختلاف وليد تقسيم طرحته، فهي من فئة وغيرها “قطط الشارع”، وهو ما وشى في مواطن عدة باعتبار المنة التي حظيت بها جعلتها تصور ذاتها في مرتبة تعلو على غيرها، وهو ما يبعث رسالة غير مطمئنة إلى نفس القارئ، فها هي نيرة التي عانت الظلم، لم ترحم بني جنسها على مستوى التفكير المنطلق من فوقية لا مبرر لها سوى فارق القدر، ويتغلغل عدم الاطمئنان ويترسخ مع تجربتها في المزابل، وهي تصف القطط هناك(” أغلبها قطط شائهة مريضة … أغلبها مترب مغبر.” (ص. 51) / “قطط شوهاء متناحرة على أشلاء دجاجات.” (ص.52) / وتتواصل المقارنة “اعتدت نظام غذاء نظيف” (ص.52) ).
كان من الممكن اعتبار هذا التميز طرحا عاديا غير أنه سقط في التمييز الذي غلبت عليه القسوة في الحديث عن القطط التي سبق وتم التأكيد أن القصة مهداة إليها… مهداة إليها لتعميق مكانتها الدونية في النفوس؟ مهداة إليها لاحتقار غريزتها في حب البقاء وتوسل جميع الطرق وما انجر عنها من تشوه يجعلها منفرة لأن المخيال الجمعي يطالب بقطة جميلة نظيفة لا تشكو عيبا… قطة البطاقات البريدية سابقا والمنشورات الفايسبوكية راهنا، مع كل التعديلات اللونية والتأثيرات البصرية حتى تستجيب للنموذج؟
ورد توضيح قبل القصة “كتبت هذه القصة من وحي أحداث حقيقية”، وأستفهم عن جدواه التبريرية ومسوغاته: هل هي الرغبة في إثبات الصدقية، وما الداعي إليها والقارئ سيباشر رحلة إبداعية يعرف لا محالة أن واقعها يمتزج بالخيال، فحتى التوثيق المحض لن يخلو من تسلل المخيلة التي لا تنفك تتصرف في الأحداث؟ هل من ضرورة كي يصرح المبدع بمصادر إلهامه مهما رصد من أهداف؟ هل هي حجة استباقية كي لا يطالب من يطلع بنصيب من التخييل المحبب خاصة وأنه غاب باستثناء جعل القطة تتولى القص بلسان بشري، نيرة التي وإن منحت الفرصة لعرض تجربتها بكل حرية حسب وجهة نظرها، إلا أن ذلك لم يمنع تسلل الكاتبة وتدخلها السافر، وهو ما يحدّ من جديد من التخييل، وجعل القطة شخصية تحركها الكاتبة مثلما تشاء وتجعلها تنطق بما يستهويها، مستحوذة بذلك على شخصيتها المختلفة عن الإنسان، ما منعها من رواية القصة حسب تصورها وإدراكها للأمور بشكل مغاير، ومن بين هذه الجمل، أورد التالية :”حين لعلع صوت رصاص.” (ص. 29) / “شممت فيها رائحة بقايا تراب عالق من الأحذية ربما. ” (ص.18) / “لعب بلاستيكية يبدو أنها كانت لولديها”. (ص. 20).
إن التدقيق في بعض التفاصيل الواردة يفقد الرواية المصداقية، فالقطة تنصت وليست خبيرة بطلقات الرصاص لتفرقها وليست لها دراية أن الممسحة مخصصة للأحذية وحيازة الولدين للعب، وهو ما تعلمه الكاتبة وحدها واضطرت نيرة إلى حشو سردها به، بل ودفعتها إلى تأجيل الكشف عن جنسها، رغم أن القرار منذ البداية هو زيارة البيطري ما اتفق عليه الأم فالأب ثم تذكرته الأم لتتجاهله إلى حبن اكتشافها في الموطن السردي الذي ارتأته مناسبا (“سنرى إن أمكننا الاحتفاظ به بعد زيارة البيطري.” (ص.14)/ “وأن أحمل إلى البيطري قبل ذلك كله”. (ص.)16/ اكتشاف أنها قطة . (ص.23)/ لا بد أن نحمل نيرة إلى البيطري، قد تحظى قريبا بأول أطفالها.” (ص 24). صغير القطّة لا يسمّى طفلا، غير أن الكاتبة تسمح لنفسها بالتدخل بطرق شتى، وتغيّب هوية المخلوق الذي وهبته فرصة السرد لتفتكها منه مواربة أحيانا وبجلاء حينا.
انفردت نيرة بالقص، بغض النظر عن هذا التدخل، فهل الإبقاء عليها ساردة وحيدة خدم النص وفكرته الجوهرية أم غيب تنوع وجهات النظر ما عدا ما وضحته القطة؟ فمن الممكن أن تتبادل مع بني جنسها حوارات تثري التجربة، وتطرحها من زوايا عدة، وهو ما أقصى الاختلاف المنشود تجسيدا لا فكرة يتم عرضها دون تلوين وإن تعددت مواقف الرفض من طرف البشر.
يعتبر البعض التكرار، خاصة في القصص الموجهة للأطفال أسلوبا تعليميا هدفه الترسيخ، عملا بالمقولة:” في الإعادة إفادة”، وهو مقبول غير أنه ليس النهج التعليمي الأمثل والإفادة تتحقق على الأقل بطرح مختلف لنفس الفكرة، وليس تكرارها كما هي فتتولد الرتابة المضجرة، كما وجب الإيمان بقدرة الطفل على الانتباه والاستقراء ودفعه دفعا للبحث بمفرده عن القصد الذي يجده مناسبا ويحافظ على التساؤل قائما، كي لا ينفر من المطالعة التي لا يجد فرقا بينها وبين حصة من الحصص الدراسية التلقينية عوض فسحة من الاستمتاع الحقيقي.
تطرقت نيرة مرارا إلى تفاصيل يومها العادي في منزل السيدة وقبلها ما تعرضت إليه في المدرسة: “فأصبح البعض يحاول مداعبتي وآخر إزعاجي”. (ص.11)/ “فبعضهم يقترب مني ليمسح على شعري…رأيت في أيديهم عصيا يحركونها”. (ص.13 ).
لم يمر غياب التخييل عن قصة نيرة دون تجريدها من فرادة منتظرة لم ألمسها في مختلف المراحل، وخاصة عودتها مع ابنها وهي حبكة معهودة في القصص والأفلام، إذ ينجح الحيوان في النجاة أولا والرجوع إلى مسكن صاحبه مهما نأت المسافات، وبذلك تفويت لفرصة خوض مغامرة سردية غير مألوفة تبتعد عن المكرر الذي ما عاد مستساغا، وتثري تجربة نيرة التي بإمكانها عيش تجارب مختلفة سواء في الطريق أو مع كائنات أخرى بشرا أو حيوانا، لخلق درب أو السير في نهج غير مسلوك، عوض الاكتفاء بالحل الأيسر والنهاية شبه السعيدة.
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد27، جوان 2023.
للاطّلاع على كامل العدد وتحميله: http://tiny.cc/hourouf27