قلب سخيّ. قصّة لفرانسواز جيرو
|ترجمة: رجاء عمّار
استبدّ الضجر بليوني، فمنذ رحيل زوجها وسفر ابنيها ليعمل أحدهما في بريطانيا والأخرى في ألمانيا، تفنّن الفراغ في حفر أيامها بإزميله، ليصيّرها خاوية من كل مسألة ذات شأن تستحق الانشغال.
في حلقة لعبة البريدج التي سجلت فيها، راودتها الفكرة التي ستغير حياتها وتنقذها من الرتابة… وستورطها أيضا.
في ذاك اليوم، قدمت السيدة ماثيو مرتدية كسوة حمراء لم تناسب اكتناز جسمها البتة، فقد صوّرت بشكل مفرط تفاصيل الجسد الممتلئ إضافة إلى قميص غير ملائم لتبدو في هيئة قبيحة.
فكرت ليوني التي تتسم بميل فطري إلى التدخل أنه وجب التكفل بتنبيهها غير أنها احتارت في كيفية القيام بذلك.
حين رجعت إلى المنزل، بحثت عن آلة الرقن الصغيرة الخاصة بابنتها، وانطلقت في العمل حين وجدتها:
العزيزة السيدة ماثيو،
إن من تكتب لك هذه الرسالة، تهمها مصلحتك وتريد لك الخير. ما زلت امرأة محافظة على حسنها، لكن لديك بعض الكيلوغرامات الزائدة- فأنت تبالغين في التهام المرطبات-، وتلبسين ثيابا لا تناسب عمرك، إن ارتداءك الكسوة الحمراء اختيار خاطئ، فقد كشفت جسامتك، وتنورتك الضيقة والقصيرة جدا نأت عن الأناقة رغم ساقيك الجميلتين.
انتقي الأسود لونا للكسوة أو الأزرق البحري أو الرمادي الغامق مع قميص وردي، فهذه الألوان تتماشى مع لون بشرتك. أقدّم هذه النصيحة من منطلق صداقة خالصة. (ارنستين)
أعادت ليوني قراءة ما رقنت، وشعرت بالفخر لاختراعها شكلا جديدا من أشكال الكتابة: رسالة من فاعل خير مجهولة المصدر.
انشرحت حين لاحظت أن السيدة ماثيو لم تعد ترتدي تلك الكسوة الحمراء، وقررت الاستمرار في هذه المهمة مدفوعة بإحساس من وجد الدرب الذي عليه سلكه.
وجّهت رسالتها الثانية إلى زوج إحدى صديقاتها:
العزيز السيد ديكورناي،
أكتب إليك لأني مهتمة بمصلحتك وأريد لك الخير. إنك تخون زوجتك مثلما يفعل الجميع، لن ألومك، لكن، يمكنك على الأقل توخي مزيد من التكتم، فإذا اعتقدت أن زوجتك غافلة، فأنت مخطئ، لقد قررت تقفي خطوك لمعرفة المكان الذي تقابل فيه عشيقتك لتداهمك متلبسا بالجرم المشهود.
فلتحذر، إذن، اقطع هذه العلاقة أو خذ احتياطك. إن زوجتك تعيسة جدا، وما تفعله بحقها ليس عدلا، فأنت تدين لها بالكثير. (ارنستين)
وضعت ليوني الرسالة في ظرف عادي، وبعثته نحو وجهته، بعدها، خبأت آلة الرقن بعناية. لقد أمضت وقتا ممتعا!
مضت أيام عديدة كادت تنال من حماسها الذي بدأ يفتر، إذ لم يستجد أمر ذا بال يستحق قيامها بنشاطها في فعل الخير، إلى أن جدت حادثة سرقة حافظة نقود من حقيبة إحدى لاعبات حلقة البريدج، وسببت الكثير من الاضطراب، إذ لا وجود لدخيل بين السيدات، فالسارقة واحدة منهن لا ريب. يا للحرج!
أعملت ليوني نفاذ بصيرتها لاكتشاف الفاعلة كي تطلب منها إرجاع ما اختلست سرا، دون جدوى، فاقترحت أن يتشاركن لجبر ضرر من فقدت مالها، تم قبول الاقتراح، ودفعت كل واحدة نصيبا.
في حصة اللعب الموالية، لمحت ليوني حافظة النقود تحت الطاولة، حملتها ونبهت الجالسة حذوها أنها أسقطتها. غدا لون الجارة قرمزيا ونفت أنها صاحبتها، لتهتف من تمت سرقتها:
– “إنها حافظة نقودي! أين عثرت عليها؟”
– “يبدو أنها سقطت منك تحت الطاولة في المرة الماضية…”
تنفست اللاعبات الصعداء وهللن وهنأن بعضهن وتجاوزن الواقعة، لكن، في المساء، رقنت ليوني على آلتها الكاتبة:
لقد تمت رؤيتك وأنت تلقين حافظة النقود تحت الطاولة، لم يتم كشف فعلتك لأن الأمور ستؤول إلى ما هو مشين، ليست المرة الأولى التي ترصدين وأنت تتنكرين لمبدأ الأمانة، سرقت خوخا من بائع الغلال وشوكولاطة من صاحبة المخبزة… وبما أنك لست معوزة، يستخلص مكابدتك مرض السرقة القسري. تعانين نقصا في المحبة، لا شك…حاولي التداوي سريعا من علتك قبل أن تزداد المسألة سوءا وتحل بك الفضيحة. هناك محلل نفسي جيد في المدينة.
(ارنستين)
ذهلت السيدة التي تلقت هذه الرسالة. من كتبتها يا ترى، فالأكيد أنها إحدى لاعبات حلقة البريدج؟ لكن، من هي؟
في الاجتماع الموالي، استفهمت ليوني:
– “هل تعرفين أين تقع بالتحديد عيادة الطبيب النفسي الذي في المدينة؟”
– ” لا فكرة لدي مطلقا! لا علم لي بوجود واحد هناك أصلا!”
أكدت ذلك وهي ترمي ورقتها الرابحة ولم تجرؤ السائلة على الإلحاح.
واصلت ليوني مناوراتها. أرسلت إلى شابة تفوح من فمها رائحة كريهة:” راجعي طبيب الأسنان.. وإلا لن تحظي بزوج أبدا!”، وجهت خطابا إلى طبيبها لافتة انتباهه أن فتحة سرواله مشرعة دائما وهو ما يزعج مريضاته، كتبت إلى شاب يبحث عن عمل:” إن مظهرك سيء، احلق شعرك، ضع ربطة عنق، أو على الأقل ارتد قميصا برقبة مدورة ذات لون غامق…تشجع!”
أصبحت تكتب بكثافة، إلى أن حل ذلك اليوم الذي شعرت فيه بتأنيب الضمير لارتكابها خطيئة الشراهة وقررت الذهاب إلى الكنيسة للاعتراف، وسألها الكاهن:
“هل هذا كل ما تودين البوح به؟”
– “نعم، ففي ما يتعلق ببقية الأمور، يحق لي الاعتداد أني لا أفعل إلا خيرا!”
استنتج الكاهن من كلامها الواثق أنها صاحبة فكرة مساعدة الأمهات العازبات النادمات، غير أنها
احتجت مصرحة:
– “أبدا! وعلام تندم المسكينات؟ لا علاقة لي بالموضوع، أنا أكتب رسائل…
تحدثت بفخر عما فعلته، بيد أن الكاهن احتد معتبرا أن رسالة مجهولة المصدر مرفوضة في جميع الأحوال، مؤكدا أن أمرها سيكشف في نهاية المطاف، سائلا إياها كيف ستتصرف حينها.
أجابت ليوني:
-” سأنفي صلتي بالمسألة، لا يمكن إثباتها مع غياب الأدلة!”
-“ستكذبين إضافة إلى ما تقترفين من عمل شائن! عودي إلى طريق الصواب، يا ابنتي، عودي إلى الجادة!”
رجعت ليوني إلى بيتها مبلبلة الذهن، تابعت البرنامج التلفزي “أسئلة إلى بطل”، بعد ذلك، اتخذت قرارها، ورقنت على آلتها الكاتبة:
سيدي الخوري،
إن لباسك الكهنوتي متسخ ولطالما عبقت أنفاسك برائحة الملفوف الزفرة… لا تستغرب من تناقص أعداد المصطفين في الكنيسة بشكل مطرد.
(ارنستين)
تملكت ثورة عارمة القس، فطوح بواجب التكتم وقدم الرسالة إلى محافظ الشرطة كاشفا مصدرها، فتم إرسال مفتش إلى بيت ليوني الذي خاطبها، ملوحا بالورقة التي بعثتها إلى الخوري:
-” أنت هي الغراب الذي ما فتئ يحوم في المدينة منذ مدة!”
شحبت ليوني وردت:
-” لست غرابا سيدي المفتش! أنا طير من طيور اللقلق التي تبشر بالسعادة!”
أجابها متهكما:
-” هل تستطيعين أن توضحي لي كيف ذلك؟”
حكت له ما قامت به بالتفصيل وهو ينصت إليها بنظرة حالمة. حين أنهت، أعرب عن تعجبه، ليضيف:
-” لو عاد الحكم إلي، لتركتك بسلام، لكنه، يرجع إلى وكيل النيابة… والكاهن! هيا، تعالي، علينا الذهاب…”
– “امنحني دقيقة من فضلك لأرقن رسالة.. هي الأخيرة!”
كتبت:
سيدي الكاهن،
أنت تفتقر إلى الضمير، والرب سيحاسبنا كلينا، سيودعك الجحيم وسأذهب إلى الجنة حيث سألعب البريدج مع الملائكة، في الحين الذي تشوى فيه، وكم ستكون الرائحة المنبعثة منك عطنة!”
وأمضت هذه المرة باسمها.
لا يمكن التثبت من صحة هذا التنبؤ، واليقين الوحيد إلى حد هذه الساعة، أن ليوني موقوفة في السجن بتهمة زعزعة النظام العام.
نُشر هذا النصّ بمجلّة حروف حرّة، العدد 24، مارس 2023.
للاطّلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf24