المرأة الريفية في تونس: شعارات فلكلورية وقضيّة للتجارة
|بقلم: نوال شطّي
تعيش الجهات الداخلية من البلاد التونسية الفقر المُدقع والتهميش إضافة الى ارتفاع نِسبة البطالة والتي بلغت 15,3 % حسب نتائج مسح التشغيل الخاصّة بالثلاثي الثالث من سنة 2022. إذ تفتقر هذه المناطق لأبسط مُقوّمات العيش الكريم كالمياه الصالحة للشراب والأمن الصحّي والغذائي مع تدهور بُنية الطرقات غير المُعبّدة والتي تشكّل عائقًا أمام المرور منها أو الوصول إليها.
تظلّ هذه الأرقام نتيجة لِسياسة كاملة تنتهجها الدولة ومنظومات الحكم المُتعاقِبة دون دور فعّال في خلق موارد تنموية في الأرياف أو محاولة تجسيد حلول واقعيّة تنسجم مع ما تعيشه هذه الجهات من تهميش طالت براثِنُه مُختلف فئات المجتمع من ذلك المرأة الريفية.
فلْنتّفق قبل كلّ شيء أنّ المرأة الريفية تشكّل إحدى الفئات الأكثر تضرّرًا. إذ أنّها تخوض حربًا ذات وجهين:
أوّلًا، صراعها في علاقة بالجندر، فهي تُقصى من جلّ قطاعات الحياة كالتعليم والسياسة والثقافة… لكونها “إمرأة” وعلى أساس أنّ “واجباتها تقتصر على قضاء الشؤون المنزلية وإنجاب الأطفال” دون أدنى اعتبار لحقوقها وحرّياتها المضمونة بالنصوص التشريعية.
ثانيّا، صراعها مع الدولة وسُلطِها التي ما فتِئت تُهمّشها اقتصاديّا واجتماعيّا، وهو ما عمّق الهُوّة تدريجيّا بينها وبين سُلطة في بُرجها العاجي لا تعرف عن مُعاناتها غير شعارات مُنمّقة وخطابات شُعبويّة تخدم لِصالحها ولِصالح من يركض خلف أغراض سياسية أو من يبحث عن “شرعيّة زائفة” ليلتصق أكثر بكرسيّ الحُكم.
تعمل المرأة الريفية في القطاع الفلاحي موسميّا فقط طيلة 7 ساعات في اليوم (من السابعة صباحًا الى الثالثة مساءًا في فصل الشتاء ومن السادسة صباحًا الى الواحدة والنصف بعد الزوال في فصل الصيف) مُقابل أجرٍ زهيد يُقدَّر بنصف ما يأخذه الرجل. وهذا العمل الشاقّ تتعرّض فيه للعنف المعنوي والاستغلال الاقتصادي، سواء من قِبل مالك الأرض أو من قِبل “الوسيط” وهو صاحب الشاحنة الذي ينقل العاملات ويتقاسم معهنّ ذلك الأجر الزهيد.
تُنقل العاملات الى الحقل الزراعي مكان العمل في ظروف سيّئة ودون حماية تضمن سلامتهنّ من الخطر، فيجِدن أنفسهنّ مُرغمات على تحمّل وَطأة العمل وصعوبته في سبيل إعالة أُسرهنّ.
وعندما نتحدّث عن الخطر، لا بدّ من من الوقوف عند حوادث المرور التي تتعرّض لها النساء العاملات سنويّا نتيجة وُعورة الطريق ناهيْك عن “شاحنات الموت” الغير مُؤمّنة ولا المُؤهّلة لعمليّة النقل، اذ يُرغِم صاحب الشاحنة النسوة على البقاء واقفات طيلة المسافة وذلك لِجمع عدد أكبر منهنّ دون مُراعاة للحمولة القُصوى للشاحنة وما يمكن أن تُسبّبه من مكروه للعاملات.
هذا ما أدّى إلى وقوع أكثر من 46 حادثًا بين سنتيْ 2015 و2022، خلّف 710 جريحة و50 حالة وفاة حسب الاحصائيات التي قدّمها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. حيث تتصدّر أرياف القيروان وسيدي بوزيد قائمة المناطق الأكثر تضرّرًا من هذه الحوادث بنسبة 55 % وفق نفس المصدر.
تتكرّر مثل هذه الحوادث القاتلة في غياب تامّ للدولة ومُمثّليها عن حلقة الجهات المُهمّشة التي تُدفن فيها عشرات الكادحات سنويًّا، ومع كلّ فاجعة موت يستفيق أحد المسؤولين من غيبوبته مُقدّمًا أحرّ التعازي لعائلات الشهيدات مع ما تيسّر من عبارات الأسف والحزن والوعد بـ “حلول فوريّة” ثمّ تعود المرأة الريفية لطيّ النسيان.
لا تقتصر معاناة النساء القاطنات بالمناطق الداخلية فقط على ظروف العمل القاسية في المجال الفلاحي، فهُنّ أيضًا محرومات من حقّهنّ في التغطية الاجتماعية وذلك يعود لسببين رئيسيّين: أوّلًا، صعوبة اجراءات التسجيل في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. وثانيًّا، لعدم حصول الفئات محدودة الدّخل على المساعدات الاجتماعية في أغلب الأحيان. إضافة الى نقص الخدمات الصحيّة وعدم تكافؤ الفرص في امكانية الوُلوج للخدمات الحياتية وهذا يعود بالأساس إلى لتقاعس السّلط المعنية عن أداء مهامها. ثمّ إنّ المرأة الريفية لم تنج من الاضطهاد والتمييز، فتتعرّض لمُختلف أنواع العنف (زوجي، مُجتمعي، اقتصادي، صحّي.. وتطول القائمة) والتمييز والاقصاء:
- تنقطع عن الدراسة في سنّ مبكّر لأسباب مادية فتلتجئ للعمل في إحدى الضيعات منذ صِغرها.
- في أغلب الأحيان يتمّ ارغامها على الزواج في سنّ مُبكّرة دون مُوافقتها.
- يتمّ التضييق على حرياتها الفردية والعامة، فتصبح “وسيلة خدمة وإنجاب فقط” ولا حقّ لها في للمشاركة في المجالات الأخرى.
- تُنتَهك خصوصياتها فتصبح مسلوبة من حرية تحديد مصيرها بنفسها واتخاذ قراراتها اليومية، لينتصِب المجتمع كمالِك رئيسي لسلطة القرار والتي يستمدّها من العادات والتقاليد السائدة هناك (بذلك تصبح المرأة الريفية مُلزمة بتطبيق قواعد تُكرّسها العادات ويحرسها المُجتمع).
- تتعرّض للعنف والتحرّش الجنسي والقمع والاستنقاص من قيمتها على أساس نوعها البشري.
وهذا نِتاج ثقافة مُجتمعيّة تُغذّي الأفكار القائمة على عدم المساواة بين الجنسين في الوسط الريفي من حيث الدور والمكانة وكذلك على مستوى ملكية الأراضي الزراعية والتي عادة ما تكون حكرًا على الرجل.
المرأة الريفية ليست في حاجة لشعارات سياسوية وهميّة بقدر ما هي في أمسّ الحاجة لعمل فلاحي مُؤمَّن ويخضع لعقد شغل مُقابل أجر تتماشى قيمته مع مشقّة العمل وعدد الساعات التي تشتغلها ويتمّ فيه احترام مبادئ حقوق الانسان المضمونة بالدستور والتي نصّت عليها المعاهدات الدوليّة، مع ضرورة التسريع في توفير وسائل نقل مريحة ولائقة لنقل العاملات الى مكان العمل واتّخاذ اجراءات ردعية وجديّة لعدم حصول أي انتهاك لحرمتها الجسدية أو استغلال عدم إلمامها ببعض حقوقها أو بالقوانين التي تُنصفها.
كذلك وجب تفعيل القوانين التي تحمي المرأة المُعنّفة وتطبيقها بجديًة على أرض الواقع في الأوساط الريفية التي تفتقر لمراكز أمن وللجمعيات المناهضة للعنف والتي تتمركز عادة في مركز الولاية إن وُجدت. وهذا يعتبر من الأسباب الرئيسية لتراجع وضعية المرأة الريفية.
لا يخفى على الجميع أنّ العمل في القطاع الفلاحي رغم صعوبته ومَشقّته إلّا أنّه يُمثّل مصدر الرّزق الوحيد للمرأة الريفية والذي يُمكّنها من تأمين الحاجيات الأساسية من غذاء ولباس وسكن… ولأنّها عادة ما تكون المُعيل الوحيد لعائلتها فهي تضطرّ للعمل في ظلّ وضع مُهين وخطر مُهدّد لحياتها، ليظلّ حلمها بحياة أفضل رهين وطن يضمن لها فِعليًّا كامل حقوقها..
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد23، فيفري 2023
للاطلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf23