سقوط غرناطة واكتشاف العالم الجديد في 1492 : أية علاقة؟
|بقلم: فهمي رمضاني
يمثل القرن الخامس عشر في التأريخ الغربي منعرجا حاسما، إذ انتقلت من خلاله أوروبا من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، كما أنه يُعتبر قرنا فارقا نظرا لما تميّز به من أحداث كبرى كان لها ثقل تاريخي وصدى حضاري وتأثير جغراسياسي على مسار الحضارات في العالم المتوسطي.
تتمثّل أهم هذه الوقائع الحاسمة في سقوط القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية سنة 1453 بيد الأتراك وازدياد التفوق اللاتيني الغربي على القوى الإسلامية التي فقدت هيمنتها على المتوسط بعد الحروب الصليبية وحروب الاسترداد بالأندلس. ففي الوقت الذي كانت فيه القوة العثمانية القادمة من الشرق تتقدم باتجاه أوروبا ،كانت الأندلس تعيش آخر أيامها حيث سيُجهز عليها الإسبان من خلال السيطرة على غرناطة آخر معاقل المسلمين في أرض أوروبا في جانفي 1492. في نفس هذه السنة، ترسو سفن الرحالة الإيطالي كريستوف كولمب في سواحل قارة جديدة مُعلنة عن انطلاق حركة الاكتشافات الجغرافية الكبرى وبداية عصر جديد.
كانت هذه الأحداث المُتسارعة والمتزامنة في آن، إيذانا بولادة عالم جديد يعلن تفوق أوروبا الحديثة وأفول شمس الحضارة العربية الإسلامية .في هذا الإطار، يُمثّل تزامن سُقوط غرناطة مع اكتشاف العالم الجديد علامة على ولادة نظام جديد له خُصوصيات حديثة، إذ بدأت تتشكّل فكرة “الدولة- الأمة” وبرزت صورة أكثر اكتمالا للعالم، كما انتهى الدور الاقتصادي للمتوسط ليبرز الأطلسي كمركز جديد للتجارة العالمية.
بيد أن التساؤل الذي ما انفك يُطرح في هذا السياق، هو علاقة سقوط غرناطة باكتشاف القارة الأمريكية، فالأول كان في شهر جانفي والثاني في شهر أكتوبر من نفس السنة، فهل هيّأ سقوط غرناطة انطلاق عصر الاكتشافات الجغرافية الكبرى؟ وهل هناك علاقة بين انهيار حضارة الأندلس وانبعاث حضارة جديدة؟ ألم تُهيئ مدينة غرناطة اجتماع ثلاثة عناصر مهمة في تاريخ الاكتشافات وهي أوروبا والإسلام وأمريكا؟
سقطت غرناطة في جانفي 1492 وهي آخر ممالك المسلمين في إسبانيا وذلك بعد توقّف المدّ الإسلامي من بلاد المغرب الذي كان يُؤجّل سقوطها في كل لحظة، حيث تمّ الاستيلاء على جبل طارق من قبل القشتاليين سنة 1462 وسقطت الدولة المرينية بالمغرب منذ 1464 وازدادت أحوال الدولة الحفصية بتونس تأزما، فمهّدت كل هذه البوادر لسُقوط هذا المعقل الإسلامي الأخير في أرض الأندلس. في المقابل أقام فرديناند ملك أراغون وإيزابيلا ملكة قشتالة تحالفا عزما من خلاله على محاربة المسلمين واسترجاع الأراضي التي سيطروا عليها منذ قرون وذلك لتحقيق وحدة إسبانيا المسيحية من جديد وطرد “الكفّار” أو “أتباع الهرقطة المُحمدية “كما كانوا يُسمّونهم.
في هذه الأثناء، كانت أوروبا تشهد بداية انبلاج عصر جديد والخروج من ظلمات العصور الوسطى، فقد ظهرت الطباعة وازدهرت التجارة وشهدت المدن نموا حضريا وسكانيا جيّدا مهّد لبُروز الفكر الإنسانوي الجديد في إيطاليا ثم في كامل أوروبا وهو فكر جعل من الإنسان مركز العالم وذلك من خلال دعوته للانفتاح والتفكير ومقاومة البدع والخرافات والأساطير. ومن إيطاليا بالتحديد سيبرز كريستوف كولمب التاجر والبحّار الجنوي الذي سيجد في الإسبان حاضنة لتمويل مشروعه وهو مشروع يندرج أساسا ضمن ذهنية العصر الجديدة القائمة على الرغبة في الاكتشاف والانفتاح على العالم.
وُلد كريستوف كولمب بمدينة جنوة، إحدى أهم المدن التجارية الإيطالية التي كان لها وزن في اقتصاد المتوسط طيلة العصور الوسطى وبداية العصر الحديث، درس الرياضيات والفلك والعلوم الطبيعية في جامعة بافيا وكان في الأثناء مسكونا بهاجس إيجاد طرق بحرية جديدة تقضي على الوساطة العربية الإسلامية في التجارة الدولية. وقد عرض مشروعه على مجلس الشيوخ بجنوة وقوبل بالرفض ثم عرضه مرة أخرى على الملك هنري السابع ملك انجلترا الذي لم يوله أدنى اهتمام ليتوجه في النهاية نحو إسبانيا حيث وجد صدى لمشروعه الطموح.
وقّع كولمب الاتفاق مع الملكين الكاثوليكيين فرديناند وايزابيلا يوم 12 ماي 1492 أي بعد بضعة أشهر على سقوط غرناطة وقد مُنح هذا الأخير بمُوجب هذه الاتفاقية رتبة أمير البحار والمحيطات كما زُوّد بثلاثة سفن ضخمة من نوع “الكرافيل “.
قبل المضي في تحليل تزامن سقوط غرناطة مع اكتشاف العالم الجديد، يتوجّب التذكير ببعض الجوانب المهمة من حياة البحّار كريستوف كولمب وخاصة علاقته بالأندلس الإسلامية. فقد كان كولمب بين العامين 1485 و1492 ينتظر صابرا موافقة الملكين الإسبانيين على تسهيل رحلته، لذلك سنجده في سنة 1489 مُشاركا في حصار مدينة “بازا” الواقعة إلى الشمال من غرناطة.
وتؤكّد مُعظم الدراسات التي تناولت حياة كولمب على أنه كان يمتلك رُوحا صليبية عالية، إذ يقول في مذكراته أنه قد تطوع في الجيش الإسباني لإظهار شجاعة فائقة أمام التهديد الإسلامي للمسيحية وهو ما نجده في هذه الأسطر “في هذه السنة الحالية 1492 بعد أن وضع سموكما حدّا للحرب مع المغاربة الذين حكموا أوروبا وبعد إنهاء الحرب في المدينة العظيمة غرناطة نفسها حيث رأيت في هذه السنة وفي اليوم الثاني من شهر كانون الثاني … الرايات الخاصة بسموكما ترفع بقوة السلاح فوق الأسوار … ورأيت الملك المغاربي يتقدم من أبوابها ويقبل أيادي سموكما الملكية … وسموكما بوصفكما مسيحيين كاثوليكيين وأميرين منقطعين إلى العقيدة المسيحية المقدسة ونشرها وعدوين لملة محمد وجميع الوثنيات والهرقطات… قررتما إرسالي أنا كريستوفر كولمبس إلى أقاليم الهند المذكورة… وأمرتما ألا أسافر بالطريق البري المعتاد إلى الشرق بل بالطريق إلى الغرب الذي لا يعرف أحد حتى اليوم بصورة مؤكدة أن أحدا قد سلكه وقد أعلنت لسموكما أن تكون جميع العوائد من حملتي هذه في سبيل استعادة القدس”.
إضافة إلى ما ذكرنا، تشير بعض الدراسات التاريخية بأن اتصال كولمب بالملكين الاسبانيين كان مبكرا إلا أنهما قد تأخرا في إعطائه الموافقة والسبب الحقيقي لذلك هو انشغال فرديناند وإيزابيلا بشن الحرب على غرناطة وهي حرب دامت شهورا من الحصار المتواصل، حيث أن الاسبان اضطروا إلى بناء مدينة قريبة لغرناطة لشن الحملات انطلاقا منها وهي مدينة “سانتا في” (Santa Fe) وفي هذه المدينة بالتحديد تم توقيع وختم الوثائق المتعلقة برحلة كولمب.
يمكننا القول إذن، بأن الحرب على غرناطة قد أسهمت في تأخير رحلة كولمب لبضعة أشهر، لكنها كانت كذلك مُرتبطة ارتباطا وثيقا بهذه الرحلة وبحدث اكتشاف القارة الأمريكية، فعلى الرغم من أن كولمب جنوي إيطالي إلا أنه كانت له علاقات جيدة مع التجار خاصة المغاربة، كما كان مُتأثرا بحضارة الأندلس الإسلامية وخاصة بتراثها العلمي المتعلق بالجغرافيا والملاحة البحرية والفلك1. ويؤكد بعض الدارسين على استفادته من أحاديث له مع التجار المغاربة والأندلسيين الذين كان لهم اطلاع مُعمّق على الملاحة البحرية، فتكون بذلك حركة الاكتشافات الجغرافية الكبرى في ارتباط وثيق بالتراث العلمي والحضاري الأندلسي.
أما من جهة أخرى، فلم يكن عزم كولمب الأوحد الاستيطان واكتشاف أراض جديدة تحتوي ثروات مختلفة، وإنما إيجاد طريق بحري جديد يؤدي إلى آسيا دون المرور من المتوسط أو بالشرق الإسلامي وقد كان ذلك يتطلب المغامرة والتوغل في المحيط الأطلسي الذي كان لغزا كبيرا طيلة العصور الوسطى حيث كان يسمى ببحر الظلمات، لذلك فإن سقوط غرناطة وتوحيد إسبانيا من جديد شجّع كولمب على التفكير جدّيا في إنهاء دور العرب التجاري في المتوسط واكتشاف طرق ومسالك جديدة تكون مركز ثقل للتجارة الدولية وبديلا عن المتوسط الذي ظل لقرون “بحيرة إسلامية “.
ولا ريب أن الحروب الصليبية وحرب الاسترداد في الأندلس، كانت تندرج ضمن هذا المشروع الاقتصادي وهو التخلص من دور العرب في التجارة الدولية وفي نفس الوقت الاستفادة من معارف العدو المسلم وخبراته في علوم البحار والملاحة والجغرافيا. وقد مثلت حرب الاسترداد بالأندلس بالخصوص نافدة جديدة انفتحت أمام أوروبا مكّنتها من الاطلاع على تقدم معارف أهم الحواضر الإسلامية في الأندلس كطليطلة وقرطبة وإشبيلية وغرناطة.
وقد لاقت النظريات الجغرافية الإسلامية رواجا كبيرا عند علماء اللاتين، حيث أكد عديد المستشرقين الفضل الكبير الذي كان لهذه النظريات في اكتشاف العالم الجديد وتذليل الصعوبات التي واجهها رواد حركة الاكتشافات الجغرافية الكبرى. ففي مقطع خاص من رسالة كولمب إلى الملكة إيزابيلا في رحلته الثالثة سنة 1498 يتحدث هذا الأخير عن نظرية كروية الأرض وفضلها في معرفة هذه الطرق الجديدة إذ لولاها لما كان لاكتشاف أمريكا أن يتحقق.
لا يمكن أن ننكر كذلك أن جل الموانئ الاسبانية والبرتغالية كانت جزء من الامبراطورية التجارية العربية التي سيطرت على الطرق والمسالك التجارية طيلة العصر الوسيط، لذلك كانت المعارف الإسبانية والبرتغالية المتعلقة بالبحار والملاحة جزء من العلوم البحرية والجغرافية الإسلامية، فسفينة الكرافيل التي توغل بها كولمب في محيط الظلمات كانت تطويرا عن القارب العربي الذي كان العرب يستخدمونه بنجاح في شرقي المتوسط.
يتبين لنا مما تقدم أثر سقوط غرناطة في تقدم حركة الاكتشافات الجغرافية الكبرى، إذ أسهم توحيد إسبانيا وطرد المسلمين في انطلاق مشروع كريستوف كولمب الاستكشافي والذي كان يطمح أساسا إلى إيجاد طرق ومسالك تجارية جديدة تقضي على دور العرب الاقتصادي في العالم المتوسطي. أما من ناحية ثانية، فقد مثّل سقوط الاندلس فرصة للإطلاع على ما أنتجه العرب من تراث علمي وفكري استفاد منه الغرب في تطوير معرفته بالملاحة البحرية وبالجغرافيا ليمثّل بذلك أساس نهضة جديدة سيطلقها الغرب مع انبلاج فجر العصور الحديثة.
1يمكن العودة في هذا الإطار للدراسات التالية :
* عباس حمداني،”الإطار الإسلامي للاكتشافات الجغرافية الكبرى” ورد ضمن:سلمى الخضراء الجيوسي (إشراف)، الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان،1997.
* Charles Fraser Beckingham , Between Islam and Christendom : Travellers, Facts and Legends in the Middle Ages and the Renaissance, Variorum Reprints, London,1983.
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 12، فيفري 2022، ص. ص. 6-7.
للاطلاع على كامل العدد: http://hourouf12.tounesaf.org