الحظيرة والحسناء والجمجمة
|بقلم: حسّان جابلي
“آفة قميئة”، تناقلتها الألسن… ضجر. اشمأز. توجه إلى والدته يسألها: ما السر؟! تعلمين أني منذ تخرجت من الجامعة وأنا عاطل عن العمل، وأترابي بلغوا ربيعهم الخامس والعشرين وفيهم من صار أبا…. وأنا كلما أحاول زيادة غرفة أو غرفتين على منزلنا القديم والتزوج أخسر ما أجنيه وأدخره من راتبي الشهري الذي أقبضه من الحظيرة… وكم من قارئ كف وعراف وولي صالح قصدت ويقول لي الكلام عينه، حتى أن كل من في القرية صار على علم بهذا الخبر..
في ذاك اليوم، قصد قارئ الأكف الذي يقطن أقصى جنوب القرية… حينها لم يجد أمامه زبائن… أجرى معه محاورة قصيرة…. تناول يده وراح يحدق فيها مرارا ويتمتم بكلمات لم يفهم مضمونها… وأقر، بعدما كاد المسكين ينتهي: لا حل، شيء لايمكنني رؤيته. أنت لوحدك من يمكنه فعلها… انصرف وحين تجاوز المدخل أحس بصفعة كف إذ تطاير الشرر أمام عينيه… التفت يمينا وشمالا كما غزال مذعور ذات فلاة، فرأى الجمع يمضي كما البقر… مسح بيده على خده واختفى مع مطأطئي الرؤوس الفارين إلى البيوت…
وفي يوم آخر، بعد سماعه أن عرافا ظهر مؤخرا شمال القرية له كلمة لابعدها، قصده في يوم هجير وقد كان الزبائن صفا صفا… تحمس… مادام الأمر هكذا لابد أن ماسمعه صائب… تمكن من تجاوز عتبة الباب وحينها علا صوت المؤذن لصلاة المغرب… جلس قبالته كما يجلس عبد في حضرة سلطان، تمعن فيه النظر مليا… كان على يقين من أنه سيعود محملا بأخبار سارة ومن الغد ستكون له حياة جديدة… ظلت عينا العراف مشتدة إليه وهو يرفع رأسه فيرى مئات الأفكار تتراقص… فتزداد بهجته الضائعة منذ بعيد الأزمان، المخبأة خلف أطنان من التعاسة والأحزان… انقطعت أعين العراف عن التطلع… وأصدر كلمات كالمحدث نفسه… أدرك منها أن الأمر محجوب كأن صاحب الفعلة قميء متمكن من السحر الأسود… وأن الحل بيده… امحى يجر أكياس هزيمته، إذ كان سوادا وأصوات موحشة تصم الآذان…
لم يظل أمامه خيار، الولي الصالح آخر أمل، آخر نور يضيء مخيلته التي غزتها عتمة معدمة. له زاوية، أقصى الضاحية الغربية للقرية، يتوسطها ضريح يحيط به تابوت في لون أخضر مسافر للظلمة. وصل عند الظهر، لايوجد سوى بعض الزوار المنهكين، ممن أقبل عليهم الدهر وأدبر. هذا مفاصله تؤلمه وتلك ركبتها تؤلمها من شدة البرد وذاك…. كيف لزاوية أن تشفي آلام المفاصل أو آلام الركب؟! ما الذي جاء بهم إلى مكان كهذا؟! لم ليست العيادة إذ يجدون علاجهم ولامجال للشك؟! كان ليقول لهم لكنه تراجع…
تجاوز العتبة بيمناه مبسملا. تتناثر الأضرحة في كل شبر… كان ليتساءل: لم الأضرحة هكذا، كل واحد يأخذ اتجاها ؟! لكنه تذكر جده حين حكى له تلك الخرافة، وهو يترشف كأس الشاي الأولى إذ جهزت، ذات أصيل قائلا: “ذات ليلة حالكة الظلام يابني، مر رجل مسن بمقبرة محاطة بسور عال، فقرر المكوث فيها لليلة لأنه لم يجد مكانا آمنا خشية تواجد ما كان من الحيوان ضارا… جعل من نعليه وسادة واتكأ. راح يمرر نظره بين الأضرحة محملقا كمن يبحث عن إبرة في رمل كثيب… شد انتباهه أن كل ضريح أخذ اتجاها، هذا شرق وذاك غرب وذاك…. فقال بصوت واضح : لم لم يقوموا بقبرهم كلهم في اتجاه واحد بانتظام ؟! ألا يفقهون النظام حتى بمقبرة ؟! وما إن أنهى كلامه، إذ بجثة في ثياب كالثلج تتساقط منها بعض الأشلاء والكائنات الدقيقة تخرج من ضريحها وتتجه إليه…” (الحق، وأنا أنقل الخبر، أحسست بدقات قلبي قد زادت عن عادتها)… كاد يضيع بصره وصوته ونفسه… صارت الأضرحة أمامه كأنها في منظر لها قبل حفرها…
مشى بخفة بهلوان على ركح ذات مناسبة عالمية… بلغ التابوت. ضرب عليه بيمناه مرارا برشاقة، بعدما قرأ الفاتحة وبسمل كثيرا… تمتم كلمات حتّى يخلصه من اللعنة ووعد بذبح خروف إن حدث وتخلص منها…. انصرف وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة ستتلاشى..
ألقت رأسها بين كفيها كأن ثقل عنها… فكرت طويلا… دست وجهها في الأرض كما تفعل عاشقة حال التقاء أنظارها بأنظار عشيقها…
مسح بشال يأسه دهشة ارتسمت على وجهه وذاب في الأرجاء…. المقهى لايبعد كثيرا. طلب قهوة سريعة وراح يترشف، وأشاح بنظره بعيدا في السواد. كان يفكر في الغد. كان ليصرخ بأعلى صوته “ما اللعنة التي أصابتني دون غيري؟!” لكن راح يتأملها وقد مرت كما طيف وردة حمراء مسافرة إلى المجهول. ضاع صوته. ضاعت الكلمات. انعدمت الرؤية مع اختفائها…. فتح عينيه إذ الشمس تهم بالغروب. وضع ثمن القهوة على الطاولة…
استلقى على الفراش… مد يده لأخذ الصحيفة. تصفح. قرأ بعض مقال… من هنا الصورة تعصف بمخيلته ومن هناك واقعه يعدمه…
(اليأس لا يجدي نفعا… وإن كانت تلك التي رأيت وهما… أن تجعلها واقعك أفضل من يأس يعدم)
ظلمة حالكة، يقطن بمفرده في منزلهم القديم المتكون من مطبخ وغرفة جلوس وغرفة نوم وسور خارجي يحتمي به من فضول العابرين. أخذ مصباحا وراح يتفحص، كما تفعل فرق التحفير، الجدران والباحة. لم يعثر على شيء سوى جرعات يأس تناثرت في كل مكان… عاد إلى غرفة نومه وأحكم غلق الباب بالحديد… تمدد وراح يفكر في الغد، أيفعل كما الكثيرين إذ ركبوا أمواج المجهول، إما إلى أوروبا أو التحاقا بما يسمونه “الجهاد”؟!!
تتالت الأيام داكنة متشابهة، كل يوم أسوأ من سابقه، عرف الطريق إلى الحانة. صار يأتي بالجعة إلى البيت. صار سكيرا لايساوي شيئا… عامل حظيرة متهرم كما شيخ في التسعين… لم يعد ذاك الذي كان آملا يجهز نفسه حتى يعيدوا المناظرة، يقتات على الروايات والقصص والمقالات والدراسات، ليشارك فيجتازها متحصلا على المرتبة الأولى… كانت أمه كلما تزوره صباحا حاملة الفطور تجد المكان كأن أمضى به أطفال الحي يومهم… كانت تدعو له في الصلاة وكل مرة تجده على ذاك الحال تهمس له بحنان بأن الذي يفعل غير صائب و…. فيطأطئ برأسه مؤكدا..
صباحا، علمت الأم بأنهم قد أعادوا المناظرة. ذهبت له كالنبل، أيقظته بلطف وانثالت من بين شفتيها الكلمات كأنها تتعلم النطق، حينها استيقظ طفل صدّق الجميع موته… لم يذهب إلى العمل بالحظيرة، ظل ممددا حتى المساء في حين كانت عينيه تلتهم أثرا…
قصد المقهى، كالعادة قهوة سريعة، وراح يتصفح رواية… التفت، كأن هناك من قال له: التفت، فرآها أحلى ماتكون مارة مع بعض رفيقاتها، ورودا عبثت بها زخات مطر، للحظة فكر في كتابة قصيدة…
عصفت أمواج أمل أخيرا بمخيلته، رتب غرفة نومه وزينها فكانت كأن ليقيم بها حفل عيد ميلاد. رتب ما يخصه مراجعة على الطاولة، ونظم الباقي بالمكتبة… كانت أمه سعيدة أكثر من أي وقت مضى رغم ألم الآفة الذي لم يجد لها حلا. وكذلك هو… لم ينم باكرا، ليس بالحانة وإنما تائها في تفاصيل إحدى الدراسات…
نام أواخر الليل، إذ راوده حلم، سواد يتوسط الباحة… أفاق وثيابه، تعصر تقطر. بعدما أقام واجباته الصباحية، أخذ معولا ورفشا وأسرع إلى الساحة، إذ وجد رقعة غير مبلطة، فراح يحفر ويحفر وأمه تتابع في دهشة… بعد برهة والمعول والرفش يتبادلان الأدوار مرة المعول وطورا الرفش، علق المعول فجذبه بقوة مقاتل انكشاري، فارتمت جمجمة كلب خارجا…. كاد يغمى على الأم فأجلسها على أريكة ومدها بكأس ماء… أعاد إغلاق الحفرة…
حمل الجمجمة واعتلى التلة، الجبل، السفح… نظر شمالا إذ الطلق البعيد ورمى بها… وما إن أدار وجهه إذ بكلب ينبح في المجهول، وفي الجهة المقابلة رآها ترتدي الأحمر وقد هبت نسمة عبثت بثيابها فرفرفت بعيدا… وبمخيلته تدور فكرة اجتياز المناظرة والمرتبة الأولى…