كم أنت وسيم أيها.. الارهابي
|إعلان واحد على القناة الرسمية التونسية (شاهدته صدفة!) جعلني أهيم في الشوارع على غير هدى..لم تكن المكافأة الموعودة هي غايتي و أنا أسير عبر الدروب متفرسة في الوجوه أبحث فيها عن الإرهابي المطلوب للعدالة!..بل كان الإرهابي ذاته غايتي!!
حكايتي مع القناة الرسمية التونسية (تونس7 سابقا و ربما..لاحقا أيضا!) تعود إلى سنوات مضت..إذ مقابل عزوفي عن مشاهدتها كانت والدتي و لا تزال متشبثة بمتابعتها كل يوم (كأنها لا تثق بسواها!)..و القناة الرسمية هي العامل الأساسي في فقداني شاهية الأكل و تقلص معدتي حتى أصبحت بحجم معدة عصفور الدوري..
ذلك أن والدتي- هداها الله- تختار دائما من بين ساعات الليل الطويلة الساعة الثامنة للتجمع حول طاولة العشاء..و بالطبع تفتح ساعتها التلفاز على القناة الرسمية(أطال الله عمرها!)..و غني عن الذكر ما كان ينتابني حينها من فقدان للشهية مستعص و انشداد للأعصاب..
و كثيرا ما كنت أترك المائدة و أنزوي في غرفتي حاردة و أدخل في إضراب عن الطعام طوال الليل..
و لم يتوقف وفاء والدتي للقناة الرسمية أيام الثورة(عندما كانت القناة تبث برامجا عن كيفية تكاثر الجاموس!) بل أنها ازدادت تشبثا بها..
فوجدت نفسي أمام خيارين لا ثالث لهما:إما أن أشاهد القناة برا بأمي و أضحي بسلامتي العقلية أو أن أعمد إلى تهشيم جهاز التلفاز فأريح أعصابي و أفطر قلب والدتي.
.و هكذا انتصرت تونس 7 على ثورات غضبي و ظلت بكل توهجها تزين ليالي الحلوة في البلد!
و لم تكتف القناة الرسمية بإثارة موجة عداوة فكرية بيني و بين والدتي حول مائدة العشاء كل ليلة بل أنها تمادت ذات مرة فاخترقت إحدى ألذ لحظات حياتي الأكثر حميمية عندما قدم فريق فني تابع لها إلى” الحامة” لتصوير جانب من مسرحية “الجلد المقدس” التي كنت ألعب فيها دور البطلة “عليسة”..
كنت صغيرة السن في ذلك الوقت(كبيرة بالنقمة ربما) و قد ارتديت الحجاب حديثا..و أذكر أنني يومها استعرت قميصا صوفيا أزرقا و تنورة سوداء طويلة من ابنة خالتي حتى أبدو جميلة أمام الكاميرا..ههه
و بدأنا التمثيل.. و دارت الكاميرا دوران الخمرة في الرؤوس..و كنت رغم تركيزي مع النص و الحركات أعي أن رجل الكاميرا كان يقوم بتخفيض العدسة كلما تكلمت حتى لا تظهر صورتي! و انتهت “البروفة”و انتبهت إلى نقاش حاد بين مدير الجمعية (شراع للمسرح بالحامة)
و المصور التابع للقناة..لكنني لم أشأ معرفة السبب(الذي بدا جليا للجميع ساعتها)فدخلت غرفة الملابس لتغيير ثيابي..
في الغد, كان حديث الساعة داخل المعهد هو الريبورتاج الذي بثته “تونس 7” حول المسرحية التي تتغنى بحضارات “تونس” المتعاقبة عبر العصور..و كان الجميع من رفاقي يسألني عن السبب وراء عدم ظهوري و أنا البطلة!
و اكتشفت ساعتها فقط أن المصور قد لجأ إلى التصوير مع فتاة أخرى على أساس كونها “عليسة”المسرحية! و كانت الفتاة (التي شاءت الأقدار أن تكون صديقتي) قد قدمت للرواق يومها للتدرب في نادي الرقص و كانت ترتدي ملابس رياضية!
لا يهم إذن أن تبدو عليسة و كأنها عادت للتو من حصة رياضة..المهم أن لا تكون مرتدية تنورة طويلة و غطاء رأس!
..لا زلت أهيم في الشوارع أبحث عن “السعداوي” فلا أجده!و أين عساي أجد رجلا بكل ذلك التألق و العنفوان و الوسامة وسط وجوه بلادي المتعبة و الغاضبة و اليائسة و الساخطة جميعها على شيئ ما لم تعد تجد له اسما؟
فكل الأشياء تتعرى في ضيق من أسمائها عندما نستنزف فيها المعنى أو نلوثه بأكاذيبنا
و تحايلنا..حتى الحب يصبح لعبة رخيصة, حتى الوطن يغدو مجرد رقعة أرض بلا ملامح و طابور جثث,حتى الله يغدو جلادا عندما نقتل المحبة باسمه!!
لا أجد “السعداوي” إذن..ولا أخالني أعثر على ذلك الفتى يوما كبطل في مسرحية لم تلتقطه عدسة الكاميرا سهوا أو عمدا..
إنّه في عيوننا بعض من قذى و في القلوب بعض من تخيلنا لو لم يكن على الأرض كانت القناة الرسمية اخترعته?
آااااه أيها “السعداوي” ما أوسمك!و كم أنت عظيم أيها “الفوتوشوب”!