تراتيل الأزمنة الثلاث- الجزء الأوّل

بقلم: محمد أمين المكشاح

“في النهاية قد أعود سريعا وحينها سأكتب عنك كما لم أكتب من قبل… في كل الحالات هي فرصة حتى أطلب منك أن تغني للجميع”

السابعة إلا خمس عشرة دقيقة صباحا، أسرعت نحو أقرب مقعد على الجانب الأيسر من الحافلة المتجهة إلى العاصمة.

هاهي غار الملح، عروسي تتزين بسماء من ضوء وبنفسج وآيات مقدسات، تبتسم وآثار النعاس بادية على ملامحها، تودعني حتى حين…

“لابد أن تعود” تهمس في قلبي “تذكرني، سأكون تعويذة لك وحصنا، سأدرأ عنك النزف والإعصار…”

لكنك جرحي النازف الذي يشرب منه الفقراء وعاصفتي درع بيد الضعفاء، أحبك كما أنت… أنت.

“حلوة متل تدمُر عم تجهِّز صبية و ما حدا بيعرف شو بَدّو يصير” تشدو لارا عليان، مريم تتبدى في كل شيء، هذه الحكاية أعرفها جيدا، أحملها في تفاصيلي، أتنفسها، أنتظرها وتنتظرني، لكننا لا نختار غير الرحيل لقاء.

فجأة لمع شيء هاهنا ودوى صوت قامت الدنيا له ولم تقعد… تفجرت الأزمنة الثلاث، تناثرت شظايا…

“لابد أن أعود، عروسي تنتظر وفي أحشاءها انتظرني أولد من جديد…”

ظلمة، أين؟ متى؟ كيف؟ ضاعت أناي مني وتلك الآية المقدسة نظرت في حنو وحب جارف لتلتحف بعدها السواد… تمزقت غير أن طعم الملح لم يختف والحلم…

“لا شيء، لا شيء…”

حدثني المخمور ورائحة الذكريات تنبعث من ثيابه الرثة ذات مرة… “لم يبقى من الرقي على هذه الأرض غير بقايا موسيقى دأبت على البحث عنها في تفاصيل وجوهكم.”

أدخل يده في جيب معطفه ليسحب سيجارة ثانية من ذلك الصنف الرديء الذي يداوم على استهلاكه تشبها بالفقراء بعد أن أطفأ أخرى لتوه في المنفضة المصنوعة من خشب البلوط… حدثت نفسي وأنا أتابع حركاته أن رداءة هذا الشخص المركبة من جوهري العفن والنور هي حقا ما يميزه… حتى أنه يشبه تلك المنفضة إلى حد بعيد.
تابع منهكا “لم يبق لي وجه، سأسافر بحثا عن واحد…”
-كم تملك من المال؟
“لا شيء غير بقايا أحلام… لكن تذكر جيدا: الموسيقى التي تجعلني أدخن أكثر، وحدها هي القادرة على تقمصي… هكذا علمت ذات يوم أني موسيقاي…”

-وموسيقاي؟

-أصغ إليك، حتما ستجد أصواتهم ترشدك إلى الحقيقة.

 

دندنت “هالقلب متل طْراف صابيعك المضمومةِ سوا، والطير ضيف بهالهوى” ضحكت طفلتي، اخترقتني، ظننتني ميتا… ماذا بعد؟

“في عينيك أنا مكفن، أنا ميت، أنا كما تعلمين- أنك لا تعلمين… الخز أخو الطين”

 

شعرت بالبلل يتسرب إلى أطرافي وأخذ طعم الملح يختفي شيئا فشيئا… وأبصرت الأخضر، هل تراني بعثت بعد موت؟ لكني لا أشعر بجسدي، أبصر فقط…

 

“غار و عذراء…

سجود للشمس و الليل أقبل يحرر النجوم- والقمر…أنشودة العرس مريم وصلوات…

أسلمت وجهي لله- أتذكر…

التفاحة نجمة

و كنت كما البراق…

استراق الليل و النجم

و سجود في همس- أراك…”

ترددت بين جنباتي تلك الأصوات مرتلة… يبدو أنه كان محقا…

 

لن ينتهي النص.

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights