وطن لوطن بلا وطن
|بقلم: محمد أمين المكشاح
“ما هو الوطن؟” تساءلت بعد أن قلت لها أني ما عدت أراني وأن هذه الغربة في داري أمست بالفعل داري وأني ما عدت أحياني مفردا وأن الشك أعياني- بل وربما أعماني- وأني، إذ أني هنا ما عدت لي أنا…
على الطريق صباحا و مساءا، أقطع المسافة بين المنزل والعمل سيرا على الأقدام علّي أتعود سفرا لا ينتهي إليك… ظننت في بداية الأمر أن صقيع الشتاء والرماد الصاخب الذي غزا السماء وأخذ يمطر الأرض مواجعه كفيلان بمنعي عن التفكير المستمر فيك. على العكس من ذلك تماما، وجدتني أراك في جميع تفاصيل الزمان والمكان، في عبق القهوة ودخان السيجارة المتصاعد، في دفء المقهى وبرد شوارع المدينة المهجورة إلا من بعض المارة وفي أنوار المصابيح المبعثرة على جانبي الشارع الرئيسي للمدينة.
تعلمين؟ أنت تشبهين إلى حد بعيد هذه المدينة بل أني أكاد أجزم أن مزيجا من سوناتا فالس الربيع لشوبان وساعات لا تنتهي من التجول في المدن كانت وراء مولدك.
علمونا أن الحب لا يعدو أن يكون نزوة، نسمة- ريحا حارقة مارقة مهما تشبثت عقاربها بالدوران فلن يكون مصيرها غير التوقف في المنتصف من العالم السفلي حيث لا شيء غير مزيد من السجائر والقهوة المعطرة بقطرات من ماء البحر…
هم في الحقيقة يؤكدون أنك حلم لا يتحقق لكنهم يتجاهلون أيضا أن الحلم ملك للحالم وأن للحالم جنتين: أنت وأنت… أنت بعينيك اللتين تذهبان بعيدا في دخيلتي وأنت الدخان الذي يجري مجراك مني فلا أكتفي منه حتى إذا قتلني لمرات ومرات…
الحلم، أن أحملك بين جنباتي وأطير بك إلى مناطق من الأرض والتاريخ لم تعرفيها، فتكبري يوما إثر يوم داخلي حتى تصبح الأنا أنت، فقط أنت لكن بتفصيل لا يفارق هويتك: أنك ولدت وكبرت في جوهري… هكذا تكونين بدورك أنا. لا أستقل عنك ولا تستقلين…
الواقع، أني رجل يخاف أن يحب ولذلك تجدينه يسعى بكل ما أوتي أن يراقبك من وراء ستار يخفي غيرة حمقاء أودعها فيك… لا تدرين كم أن كل شيء فيك يغريه بالتمزق بين البقاء والرحيل، حتى لا أكون لك وتكوني لي صورة وروحا وأنشودة…
وأنا أداعب صورة الطفلة الحلوة جدا فيك، أتذكر كم أن الكتابة كانت شاقة علي حين حاولت في سنوات طفولتي أن أكتب كلمات خالدة تبعثر كل من يطلع عليها إلى أجزاء ليس بمقدور أي كان أن يجمعها غيري. كانت المقدمة دائما أكثر ما يجعلني أبحث في متاهة الكلمات عن غرفة ألتقط فيها أنفاسي وأذيب في نور شمعة تتوسطها خجلي من عجز عن الكتابة أصابني فإذا لم أجد الغرفة المنشودة تلك رميت الأوراق وأخذت ألعن كل شيء إلى أن أتمكن من اتمام تلك الأسطر.
ترين؟ هذه حالي مع الكتابة وحالي معك…
ترين؟ سؤالك عن الوطن يضعني في مأزق حقيقي يدفعني إلى التفكير: هل أنك تبحثين عن الوطن أم عن المأزق نفسه؟ عن الوطن، الأرض، المدينة، الدار، المقهى حيث يدفن الحالمون رؤاهم تحت كومة من أعقاب السجائر والرماد المسلح بجرعات متتالية من فنجان القهوة؟ أم تراك تعنين ما وراء ذاك الستار العتيق حيث في الرماد بعث و إلى الرماد عاد الفينيق؟
ترين أني أراني وطنا لوطن بلا وطن وأن عقارب الساعة لا تنفك عن التوقف والدوران وأن الساعة كل الساعة ذابت فيك؟
“فما هو الوطن؟”
“أن أحادثك فأجدني… قطعا، ذاك هو الوطن…”