سيرناد الوداع
|كان طريقه إلى البيت خالياً من كلّ شيء عدا بعض الهواجس والأشباح التي تتراقص أمامه وخيالات بعض الأشجار التي طوحتها الريح. زاد من كآبة المشهد ووحشته الهطول الغزير للأمطار. قفز إلى ذهنه فجأة أنها طالما أحبت المطر وصابرت تحته. تأفف. صرّ يديه في جيبه وسارع الخطوات كأنما يتهرب من الذكريات التي انهملت عليه كالسيل . تذكر أول مصادفة جمعتهما في المطعم الجامعي. تبسم رغما عنه وهو يستعيد ذكرياته الأولى معها. كانت يافعةً، جذابة، يشرق وجهها بطفوليةٍ لذيذة. تكررت بعدها اللقاءات. لا يذكر من كان له السبق في الخطوة الأولى. كل ما يذكره أنه أحبها بجنون … انصهر في الذكريات ناسياً الطريق والبرد والمطر … تذكر بسمتها، رعشتها، غيرتها المفرطة عليه، وعدهما لبعضهما بأن لا يفترقا أبداً، تذكر أحلامهما التي راحا يبنيانها معاً. طالما قالت له ” أن الحلم لا يكذب ، وأنت حلمي”.
افترّ ثغره عن إبتسامةٍ هي أقرب للبكاء .
_” ربما صدقت. الحلم لا يكذب … لكنه كان أحمق ساذج مثلنا حين راح يوهمنا بكل تلك السعادة .”
قفز من مكانٍ إلى آخر متخطياً سواقي الماء كأنما يقفز فوق الذكريات.
_ ” أففف … ما أشقاني بهذه الذاكرة اللعينة “.
كان موقنا أن له ذاكرةً مختلفةً عن بقية البشر. فهي لا تسترجع الماضي والذكريات فقط بل تفلسفها أكثر .
خمس سنواتٍ مرت كلمح البصر … أين هي الآن ؟ انغمس في التخمينات …
أ لازالت تحتفظ بذكراه؟ أ تذكره بكل هذه الحرقتي والشوق ؟ أم تناسته وانهزمت أمام مشاغل الحياة الجديدة والبيت الجديد والزوج ؟ آه ! الزوج ؟ أتراها تنام بجانبه الآن؟ تحادثه … تعانقه …؟
استبدت به تلك الأفكار وهو يراها تحقق كل ما حلما به مع رجلٍ أخر … رجلٍ ما كان ليراها لو لم يتركها تذهب لتلك الحفلة …
آه ! لو منعها من الذهاب، ربما لتغير الكثير …ربما كانت معه الآن …
طالما عاتب نفسه على ذنبٍ لم يكن منه بد. من هنا بدأت مأساته وتسارعت الأحداث، وتسارعت معها نبضات قلبه وهو يسترجع تلك اللحظات كأنما يعيشها للتو. بعد أسبوعين حل الغريب ضيفاً عليهم يخطبها. وافقت أمها …كادت تجن … اتصلت به لتخبره بالحدث الجلل والدموع تغلبها … ظلا لمدةٍ طويلة يقنعان أمها لتعدل عن موافقتها، كان على استعداد للقيام بأي شيء حتى أكثر الاحتمالات تهوراً وجنونا. لكن أمها رفضت، فهو قليل الحيلة أمام الخطيب البرجوازي المرموق.
في الآونة الأخيرة ، قلت مكالماته، صارت تتحجج بانهماكها في أشغال البيت. بدأ يتسلل إليه شعورٌ غريب، لكنه كان يتهرب ويبرر ويكذب. لا يمكن أن تتركه، أو تراها رضخت لقسوة الواقع وأذعنت لكلام أمها ؟
لا زال يتذكّر آخر مكالمة لهما، أخبرته أنهم حددوا الخطوبة والزواج في الصيف المقبل. أحس أنها تريد أن تقول أكثر من ذلك … أن تبرر صمتها، تخاذلها، أن تعد بأنها لن تنساه …
_ ” مبروك وربي يهنيك “
فزعت وردت بكلام غير مفهوم لكنه قاطعها بأن لا جدوى من الكلام الآن …
أحس بضيقٍ خانق يكاد يكسر أضلعه، ندت على جبينه حبات عرقٍ ساخن أحس معها بثقل أنفاسه وخدر في رأسه. فك ربطة عنقه … فتح معطفه … توقف فجأةً دون أن يشعر ببركة الماء التي يقف فوقها. انهمل المطر على وجهه وتسلل عبر رقبته إلى كامل جسده.
رفع يديه إلى سماء كأنما يطلب منها أن تعمّده، أن تزيح عنه ما أثقل صدره، أن تغسل عنه ذنبا ما اقترفه لكنه يعذب بسببه ….. والريح من حوله تعزف سيرناد الوداع…