بنت أخرى موؤودة
|تكتبها وأنت تسكب فيها نفسك. كلّ حرف من حروفها له قصّة وأيّ قصّة. تحبس نفسك وتصمّ الآذان عن كلّ الصيحات الّتي تناديك. حتّى لو كانت صيحة قوم عاد لن ترفع قلمك حتّى تخطّ آخر حرف من حروفها.ينتابك بعض الضيق إذا شرد المعنى وغاب في الزحام. تهمّ أن تلقي القلم وتنتظر لحظة جديدة من لحظات التجلّي قد تأتي بعد عام أو عقد أو قرن. لكنّك توقن أنّك، وأنت المصدور، لا بدّ أن تنفث. داؤك أبديّ، لا شكّ… وأنت تدري ذلك منذ كتبت قصيدتك الأولى ولكنّ النفث يريحك برهة. أنت تفضّل أن يأتيك ذلك الزائر بردائه الأسود وتشعر بأنفاسه الباردة وصدرك خالي الوفاض من كلّ ما يمكن أن تنفثه، فذلك الزائر العجول لا يطيق أن يقال له “انتظر”. ترتسم هي أمام ناظريك كما رأيتها آخر مرّة…بعينيها الراقصتين …بضحكتها الّتي لا تخرج إلا من الأعماق…بحكاياتها الّتي لا تنتهي عن همومها الصغيرة…بنكاتها الحلوة المحبّبة…بعبثها بشعرها وهي تصغي إليك…بذراعيها العاريتين اللّتين تتمنّى لو غفوت عليهما دهرا…
تعود إلى دفترك الّذي لم تبق به الكثير من الأوراق وتكتب وتكتب وأنت تترنّم ببعض الأبيات. تنظر إلى المسودّة المليئة تشطيبا وتقديما وتأخيرا كأنّها مكتوبة بشيفرة غامضة. يملؤك بعض الرضا، كدأبك متى أنجبت قصيدة. وتلقي بنفسك على السرير مفكّرا أنّك أهديتها روحك منثورة بين كلمات. ولكنّ ذاك الصوت الساخر يخرج من مكمنه مقهقها بعد أن تمتّع خلسة بمشاهدة المهزلة: “ابنة أخرى لن يراها أحد، حتّى هي. ولو رأتها لقهقهت ملء شدقيها من مرأى تلك الكائنة الوحشيّة الهاربة من زمنها. فلتقم بما اعتدت يا وائد البنات”.
تزفر يأسا وتكوّر المسودّة بين يديك وتلقيها ولا تدري حيث وقعت. ثمّ تغمض عينيك وتغفو…