حين تفيق ذات صباح لتكتشف سفالة غبائك في وطن تؤلمك فيه أشياء كثيرة
|نسمةٌ صباحيةٌ باردة… القهوة، تهدينيها أمي كل صباح… أغنية تذاع في الراديو أكتشفها لأول مرة وتشغلني أياماً … أشياء بسيطة هي وقود حياتي الصباحي. أشياء أعشقها، أملكها، تسافر خلال سنواتي فتيةً لا تشيخ ولا تتعب. كرسائل تأتيني دون ميعاد لتذكّرني أن بعض الجمال ينتظرني في ركن ما لأقتنيه بابتسامة أتم بها نهاري. لتذكرني أيضاً انني مازلت أجهل من الجمال الكثير وأن سنواتي القادمة جديرةٌ بالحياة.
أنت أيضاً تملك أشياء كهذه لا يعلمها إلا أنت.
أشياؤك الجميلة يأتي يوماً ما من يكسرها. يسلبك محطات وقودك. روحك دون وقود تناضل، تصبر، ثم تنهك وتستلقي قليلاً ترتاح. إن ارتاحت الروح ماتت وتركت صاحبها في حداد. حداد الروح يتم في صمت. ترتسم كآبة على قسمات وجه صاحب الفقيدة، يستقر حزن في أعماقه تثقل ظلاله عينه لذلك تراهما متعبتين. فترات الحداد تتفاوت بين الأشخاص وإن طالت فإن صاحب الفقيدة يواصل حياته ككائن بلا روح، يعيش وحدة عميقة، حركاته تخلو من حياة، يمشي حذوك في الطريق أو يجلس قبالتك في وسائل النقل منهكاً، مغلوباً لا حول له ولا قوة. والروح إن ماتت استلزمت عشقاً وحلماً كبيرين لإحيائها من جديد، وهو ما لا يقدر عليه الكثيرون. فبذلك تتراوح أيضاً فترات الحياة بلا روح بين الأشخاص. فمنهم من يتم تشخيص حالته بتعب أو إحباط وأزمات نفسية أخرى.
أسباب فقدان الروح لا تقتصر على قبح أحداث أو أشخاص تسلبك أشياءك الجميلة. أسبابها أيضاً وجع الغباء. حين تفيق ذات صباح لتكتشف سفالة غبائك في وطن تؤلمك فيه أشياء كثيرة.
حين يصور لك الغباء أن ذاك المعارض السياسي، سابقاً، على الرغم من شهوته المفرطة والظاهرة للسلطة، تشفع له سنوات من القهر والذل والسجن والحرمان. تتوهم في نفسك احتراماً لحقوق الخلق وإيماناً بالديمقراطية فتغفر للرجل جشعه. غباؤك يمنعك من أن ترى في السياسي المتلهف على السلطة أكثر من الجشع، أن ترى فيه إرهابياً سابقاً، قتل وذبح وروّع أبناء الوطن، وأن سنوات سجنه لا تشفع له بشيء، وأن تباكيه أحقر استدرار للعفو والمغفرة. تكتشف قبحه الذي غفلت عنه حين يعيد الكرة مرةً أخرى. ثم تفهم أنك لا تملك أن تغفر له أو لا تغفر في حق الغير. أعظم من ذلك، أن تغفر لمن أجرم في حق الوطن فتلك خيانةٌ للوطن. ولك أن تتساءل هنا عمن تحالف معه ومن عمل معه… أ أغبياء أم خونة؟ ويرهقك السؤال.
ولك أن تعي غباءك أيضاً في عدم قدرتك على فهم أحداث تتوالى على الوطن. ما معنى أن يغتال زوجك أمام البيت ؟ بركة الدم تغطي رقعةً من الأرض، أنفاسه الأخيرة يلفظها، أن يستكثر عليه البعض لقب شهيد؟ كيف لك أن تعي ألماً كهذا ما لم تعشه؟ ما معنى أن تذهب للعمل ساخطاً لأنه لن يتسنى لك مشاهدة مسلسلك الرمضاني الذي تتابعه في المساء فتكون أول من يتلقى في المستشفى خبر إستقبال جثث الجنود الذبحى وتنسى أمر المسلسل وأموراً أخرى لأنك في بلاء أعظم؟ أمّ الشهيد، أ زغرودةً تلقي أم تصيح ثكلى “ولدي!” ؟ ما معنى أن تشهد تفجيراً على شاطئ البحر؟ كلها أشياء لازلت لا أعيها وفي هذا غباء عاطفي سخيف. وفرط الغباء يرهق صاحبه ويثقل روحه.
وفي وطن تنهكني فيه الأحداث و فرط غبائي، تبقى لي أشيائي الجميلة أناضل لأحفظها : نسمةٌ صباحيةٌ باردة… القهوة، تهدينيها أمي كل صباح… أغنية تذاع في الراديو اكتشفها لأول مرة. لأن في الاستسلام أيضاً خيانةً للوطن.