ثورة لم تحدث في الجزيرة – الجزء 2
|وهكذا انتهت الثورة التي أعلنها جسدي ذات تظاهرة كنت أشارك فيها فاستأنفت مظاهر الحياة فيه سيرها العادي،بل و كلّفتُ بعض أعضائي بتغيير شعارات قديمة بالية كـ”جودة الحياة” و”بالأمن والأمان” … بشعارات جديدة من نتاج الثّورة كالحريّة والتّنمية والعدالة والدّيمقراطيّة…
وحتّى أضمن النّصر الكامل فقد أصبحت أمنح جسدي أكثر ممّا يطلب فسدّت كلّ الأفواه و ما عادت تقدر على المطالبة بالمزيد.ورغم ذلك ظلّ هاجس ما يشغل بالي مكدّرا عليّ صفو حكمي الرّشيد.
فما المانع أن يشهد جسدي ثورة أخرى تكون أعنف من الأولى تطيح بي؟
لذلك قرّرت التّوقّف عن الخروج إلى السّاحات الثّائرة والانزواء في غرفتي أطالع كتبا لطالما كانت مهمّتها الوحيدة تزيين مكتبي الفخمة.لقد فكّرت أنّه يجب عليّ الاطّلاع على كتب التّاريخ والدّراسات الاجتماعيّة والسياسيّة حتّى أتمكّن من مفهوم الثّورة أسبابا و سيرورة ونتائج.
وهكذا صرت أقضي السّاعات الطّوال منتقلا بين ثورات ما قبل التّاريخ وصولا إلى الفرنسيّة فتلك التي وقعت برومانيا فاستلهمت منها طريقة ناجعة يتمكّن من خلالها النّظام من الاستمرار حتّى وإن فصل عنه رأسه.
ثمّ إنّي تمكّنت أخيرا من كلّ المصطلحات الشّائكة المتلوّنة من عصر إلى آخر و أدركت أنّها المسبّبات الرّئيسيّة الثّورة.
وقد كنت مهتمّا في ذات الوقت بجسدي الذي صار طيّعا أكثر منذ منحته الرّاحة و أغرقته في الملذّات.ويبد أن تلك الخطوات الأخيرة قد لقيت استحسانا كبيرا لديه إذ بدأت تردني بين الحين والآخر برقيّات المناشدة ورسائل البيعة، كيف لا و أنا الحاكم العادل المثقّف الذي تدعو له الرعيّة بالحكم الرّشيد والعمر المديد.
ولا أخفيكم أنّي شعرت بفيض من الغرور يتملّكني خاصّة حين حمل لنا يوم جمعة مجيدة خبر إسقاط الحاكم فابتسمت وقد أدركت أسباب فشله في الالتفاف على الثّورة.
وحتّى لا تفوتني تلك اللّحظات التّاريخيّة فقد انطلقت إلى الميادين أشارك الشّعب فرحته بالانتصار العظيم و أنا على ثقة بأنّ جسدي سعيد هو الآخر في سباته العميق.
و بعد ساعات من الرّقص المتواصل وتبادل التّهاني عدت منهكا إلى المنزل فاستلقيت على السّرير وأخذت أزرع فرحتي المضاعفة بين أرجاء الغرفة حتّى وقعت عيناي على صورة للمناضل الأممي تشي غيفارا تتوسّط مجموعة من الكتب المبعثرة في غير عناية.
حينئذ خطرت ببالي فكرة غريبة وافق عليها جسدي بسرعة رغم حالة الإنهاك التي كان عليها.
فنهضت عن سريري وأخذت أرقص بجنون فوق الكتب والدّراسات التي غطّت أرضيّة الغرفة.وقد كنت أمسك أحدها بين الحين والآخر أمزّقه وأنثر أوراقه عاليا وأنا أضحك بشكل هستيري لم أعرفه من قبل.
وتواصل جنوني ذاك حتّى أتيت عليها جميعا كتبا و صورا فاستلقيت على الأرضيّة وقد تملّكتني آلام شديدة في رأسي الذي فقدت كلّ تواصل معه وأنا أشعر بغرقي وسط دوامة دائريّة ضخمة.
وفجأة شعرت بقبضة تمتدّ إلى رقبتي تهزّني هزّا عنيفا تضغط عليها بشدّة تكاد تقتلني فدفعتها عنّي بصعوبة وأنا أحاول النّهوض فلا أفلح.
وقد عجزت حتّى عن فتح عيني لثقل في جفوني لم أعرف مردّه.
ففكّرت حينها أنّ أحد أفراد العصابات التي ظهرت من العدم في أولى ساعات النّصر قد قرّر السّطو على المنزل.
كدت أصرخ:”يا إلهي… أمّي؟” ولكنّ يدا أخرى منعتني من الصّراخ فاستجمعت كلّ قواي و قد ارتسمت صورة والدتي أمامي ودفعتها عنّي ونهضت،و نجحت أخيرا في أن أفتح عيني.
وكم كانت المفاجأة كبيرة حتّى أنّي نسيت أمري ونسيتها وأنا أرى الغرفة قد اتّسعت وتباعدت جدرانها التي ارتفعت عاليا فصارت كأسوار سجن في ليلة مظلمة غاب قمرها وانقطع فيها التيّار الكهربائيّ.
كان الظّلام شديدا يحيط بي من كلّ جانب فلا أكاد أرى غير الجدران البعيدة وقد علتها أسلاك شائكة.
شعرت بوهن يسري في جسدي وحين كدت أسائل نفسي عن الأيادي التي كانت تخنقني وقع بصري على الأوراق التي كنت أمزّقها فأدركت أنّي لم أكن أحلم.
وقد أفزعتني تلك الفكرة كثيرا وزادني جهلي بما حلّ بي خوفا و رعبا.
جلت ببصري في مختلف الاتّجاهات بحثا عن منفذ ولكنّي لم أجد غير أسوار و بعض الغربان التي أخذت تنعق بصوتها الكريه الذي زادني رعبا.
خفضت عيني فرأيت ما انعقد له لساني وارتعدت له فرائصي: لقد كانت الأوراق الممزّقة تقترب من بعضها و تتّحد لتتشكّل رويدا رويدا أجسادا مافتئت ترتفع حتّى صارت بِطولي و أكثر.
كدت أسقط إذ لم أعد أقوى على الوقوف أكثر و أنا أرى ما مزّقتُه قبل ساعة قد تحوّل أجسادا بشريةّ بلا ملامح ولكنّها كانت تصدر أصواتا مرعبة جدّا أبكتني.
وكم زاد رعبي حين بدأت تسير نحوي وقد صارت لها فتحات في وسطها ظننتها أفواها ستلتهمني ما إن تصلني.
ولأنّي كنت عاجزا عن الحراك فقد أخذت أتوسّل جسدي حتّى يتأخّر بعض الخطوات فأراه وهو يحاول فلا يفلح.
فأذكّره بكلّ النّعم التي كانت تأتيه و أنّه لو فشل في الهرب فسيُحرم منها إلى الأبد.
وواصلت على ذلك المنوال حتّى تحرّكت غرائزي فمنحتني قوّة للرّكض، ولكنّ الأجساد كانت قد سدّت كلّ المنافذ فلم أجد بدّا من التقدّم مباشرة أشقّ صفوفها الكثيرة.
لم يكن هناك من حلّ غير ذاك الذي اهتديت إليه خاصّة وقد لاحظت أن تلك الأجساد بلا أعين تبصر بها.
إذن ليس عليّ سوى تفادي أياديها الممتدّة وتجاهل أصواتها المرعبة.
وهكذا استطعت إقناع جسدي بالرّكض نحوها مباشرة.وفعلا انطلقت بكلّ ما منحني إيّاه من قوّة أجري مندفعا حتّى إذا ما اقتربت منها زادت خفقات قلبي بشكل رهيب فأغمضت عيني و أعلمت جسدي أنّها لحظة الحسم فإمّا خلاص و إمّا…
ولمّا كنت أتجاوزها على غير هدى كانت أصواتها تصلني بوضوح فوجدت فيها الكثير ممّا كنت أقرأه.
وأيقنت أنّها تلك المصطلحات التي رحّبت بها في فكري حتّى أسيطر على جسدي أكثر فإذا بها تقود أفكاري للثورة ضدّي تريد نهايتي أنا الحاكم..
قضيت في الرّكض دقائق حسبتها دهرا حتّى خارت قواي أو كادت ،فشعرت باستحالة الخلاص وقد وصلتني الأيادي واحتلّتني الأصوات و ما عدت أقدر على التقدّم أكثر فسقطت على الأرض وقد أيقنت أنّها النّهاية فاستسلمت للثّقل الذي أخذ يعلوني حتى أنّي سمعت طقطقة عظامي و مُنعت من التّنفّس وسمعت صوتا خافتا يصدر عنّي يعترف بالخطإ طالبا الصّفح والمغفرة فتتجاهله أفكاري متواصلة خنقي حتّى جحظت عيناي…
سامي،سامي هيّا لنهرب،لقد استيقظ عمّي…
يصيح إبن أخي الأكبر وهو يجرّ أخاه الأصغر الذي كان ممسكا برقبتي، فتتلألأ عيناي بالدّمع وقد عرفت أنّي كنت نائما وأنّهما كانا يلهوان في غرفتي وقد نثرا فوقي أوراقي الممزّقة في حين جلس الصّغير على صدري يلاعبني بشقاوته المحبّبة إلى نفسي