سنبني..أحلامنا (الجزء الأوّل)
|في صمت نرجسي رهيب..تحت ضوء القمر و همسات المطر..نسمع صوتا خافتا يطل من بين المقابر..إنهم موتى تلحفوا بوشاح الغربة..نهضوا من بين عبق التراب و قيود الماضd..نهضوا ليثوروا على نواميس الحياة..و سلاسلها المتجبرة..نهضوا ليبنوا حلما..في تحدي صارخ لجبروت حارس المكان و تقاليد القرية..الموتى لا يحلمون..بلى فاليوم أخبرهم الساحر بالنبوءة التي طالما انتظروها..
كي نتجدد..لا بد أن نحلم..و ندون أحلامنا بأحرف من أمل..
الحلم الأول| في عشق..بومة :
تحت ضوء القمر..و في سكون الليل..حملت حقائبي بعيدا عن ضجيج الحياة..و غضب السماء..
لدى مروري بإحدى المقابر المطلة على البحر..شد انتباهي صوت مخيف..تبينت فيما بعد أنه نعيق بوم..أسرعت الخطى..فقد حدثتني جدتي أن البوم نذير شؤم..وأنا تعبت من تلقي الصدمات المتتالية..لكنها استوقفتني وبادرتني بالحديث : “يا فتى مالك تتجنب لقائي ؟ أتتشاءم مني كسائر بني آدم ؟؟”
تجمد الدم في عروقي..و تسمرت في مكاني..تعلمت في صغري أن الحيوانات لا تتكلم..و هي أقل شأنا من الانسان..هكذا أخبرني والدي..
يبدو أن قرأت أفكاري و قالت لي : “يا إنسي، أ تسكثرون علينا الكلام ؟؟ تقتاتون من لحومنا و ترتدون جلودنا..وتتعطرون بزيوت تستخرجونها من أجسادنا..و تريدون منعنا من الكلام أيضا ؟؟؟
اقترب مني لا تخف..لا تتشاءم..فبنو البشر و حتى بني جنسي يعلقون فشلهم على مجرد رؤيتي أو سماع صوتي..عوض اصلاح انفسهم..”
عشقت البومة..و لكن لا أدري لماذا..ربما رفقا بحالها..أو تمردا على نواميس الحياة..التي جعلت من البوم مصدر شؤم..و من الحيوانات عبيدا..
اتخذت من شجرها..مسكننا..و أصبحنا منذ ذلك اليوم..لا نتفارق..
الحلم الثاني| تخلّصتُ منها :
…” حسنا لكِ ما أردتِ لكن تذكّري فقط أنّه لا سبيل إلى التّراجع”
“أنا متأكّدة.. لن أتراجع يكفيني ما عانيته منها سأتخلّص منها مهما كلّفني ذلك الأمر!”
و أخيــــــــرا سأنام الآن بهدوء طالما حرمتني منه لليال.. لن يقضّ مضجعي بعد الآن صراخها و لا أنينها.
نمتُ ثمّ استفقتُ.. لا أدري كم ساعة.. كم يوما.. كم سنة؟
انتابني شعور غريب بأنّ هناك شيئا ما قد حصل.. لم أعِره اهتماما و فتحت خزانتي لتغيير ملابسي، لفت انتباهي صندوق صغير في قاع الخزانة لأوّل مرّة أراه، فتحته فلم أجد فيه سوى قطعة من الحلوى، ساعة يد لا تشتغل، وردة أكلها العفن، بطاّريّة مهترئة و قلم مكسور.
استغربت كثيرا من وجوده هنا بين أشيائي فأفرغت محتواه في سلّة المهملات و أعدت الصندوق إلى مكانه فقد أحتاجه يوما.
أخذت دفتر ملاحظاتي من فوق الطاولة، كان فارغا..
و خرجت من البيت، كما في كل يوم فامتطيت الحافلة، وجدت كرسيّا شاغرا بجانب الشباك..
مررنا بمحطّات عديدة متشابهة.. أناس تصعد و تنزل.. رأيت كثيرا ممن أعرفهم، أصدقاء و جيران و زملاء..سلّمت عليهم، تحدّثنا عن حرارة الطقس و ازدحام الحافلة.
رأيت في وجوه بعضهم دهشة مستترة لم أعرفْ سببها.
توقّفت الحافلة، نزلت مسرعة متوجّهة إلى مكان عملي مشيا.. لأوّل مرّة أصل بسرعة إلى العمل! لم يصل البقيّة بعد..
انتهى توقيت العمل.. لم أشعر بالتعب و الضجر كما أحسّ بذلك زملائي في المكتب.
عدتُ للمنزل.. تفرّجت قليلا في التلفاز ثمّ ذهبت إلى سريري.. شعرتُ هذا اليوم بأنّ هناك شيئا مختلفا.. شيئا مختفيا..ربّما لا أدري..تجاهلت الأمر و لم أفكّر فيه مجدّدا.. و خلدت إلى النوم بهدوء.
الحلم الثالث |سفر:
كانت أصواتهم تتعالى الواحد تلو الآخر.. وكأنهم يتنافسون من بينهم أكثر إتقانا للشجار والعراك والصراخ والعويل.. تساءلت في داخلي من هؤلاء.. أهم أصدقاء؟ أم أنهم أهلي؟ أو لعلهم زملائي في العمل؟ أو كلهم معا.. ولم أسأل..؟! لا أبالي.. دخلت غرفتي.. أحكمت إغلاق الباب حتى لا تدقه أصواتهم البلهاء.. ارتميت على فراشي.. هزني نوم هادئ جميل.. لا أدري أساعة دام أم ساعتين.. لا يهم.. فتحت عيني فجأة.. لا أدري ما أيقظني.. قفزت كالأطفال من السرير.. رميت وسادتي.. أسرعت أفتح نافذتي.. سمعت صوت ديك يصيح.. من أين أتى؟ لا أدري..! إنها المرة الأولى التي يزور صياحه أذني.. ابتسمت.. تراقصت خصلات شعري مع هبات نسمات صباح هادئة.. تسرب رسم من هواء منعش.. داعب وجهي برقة.. تنفست بعمق.. أغلقت نافذتي.. جمعت كل أمتعتي.. وغادرت.. سرت تؤنسني نفحات الفجر الرقيقة.. تداعب جفني.. كان الطريق فارغا، لا أحد يمشي، لا أحد يركض، لا أحد يركن سيارته على عجل.. وكأنه ملكي أنا وحدي.. وصلت إلى محطة القطار، جلست.. وضعت كل أمتعتي أرضا.. مر القطار الأول.. لم أكترث.. مر قطاران.. الثالث والرابع والخامس تمضي.. وأنا لا أكترث.. كلها لن تقدر على استيعاب أمتعتي..!!! جمعت كل حقائبي.. وسرت إلى البحر أهمس.. يا كثير الخفايا، هل يضيرك من خفاياي المزيد.. .خذني إليك فقد تعبت من المسير.. وكل حقائبي ثقلت.. سمعته يناديني.. ركبته.. رافقتني الأمواج.. مرة هائجة ومرة ساكنة هادئة.. تحملني إلى الأعماق.. بعيد عن عالم البشر.. صرت أرى أحجاما ضئيلة.. تغيب عن ناظري شيئا فشيئا.. ورحلت وفي نفسي صوت يردد.. وداعا..! لن أعود من هذا السفر..!!
الحلم الرابع: |هروب:
أنهيت عملي في وقت متأخر وغادرت مكتبي، كان الطريق طويلا والجو باردا.. سرت أتأمل في وجوه البشر من حولي وأراقب تصرفاتهم.. ربما كان ذلك بدافع الفضول أو أنني فقط أهرب مما سيطرق ذهني من ذكريات موجعة.. كان ضجيج سياراتهم يخترق أذني دون رحمة، أصواتهم تتعالى، ضحكاتهم تتعالى، يتشاجرون، يتحدثون، يتسامرون، يتسكعون في الطرقات، يمرحون، يسخرون من المارة.. ما كان بمقدوري فرز أصواتهم.. لم أتبين ما يفعلون..! خيل إلي أنهم جميعا داخل رأسي.. أحسست أنه يقارب على الإنفجار.. وضعت يدي على أذني وضغطت بقوة حتى لا أسمع.. وأسرعت الخطى.. حاولت الهروب منهم.. جريا.. تعثرث وسط الطريق…. رأيت فتاة حسناء قادمة نحوي على خجل.. أحسست أنها ليست من عالم البشر.. سألتها ما تريدين؟ أمسكت يدي وإبتسمت.. وفجأة وجدت نفسي في ساحة خضراء.. أناس حولي يبتسمون وينثرون الزهر أرضا.. عصافير في كل الأرجاء تنسج أروع ألحان الحرية.. فراشات ترفرف وتحط على كتفي دون خوف ولا تهرب.. صغار يمرحون ويركضون نحوي يرجونني كي أشاركهم اللعب.. وعاشقان مرا حذوي فرحين.. عيناهما تتراقص حبا وأملا.. شعرت أن كل ما في قلبي من أحزان قد إنجلت.. كل ما حولي مزدان بالفرح والصفاء والمحبة.. نظرت إليهم، تنفست بعمق.. رفعت ذراعي إلى السماء وصرت أجري أسابق الرياح وأصرخ: أحبكم أحبكم.. ثم إرتميت بكل ما أتيت من قوة بين الأعشاب الخضراء.. أغمضت عيني وإستسلمت إلى أشعة الشمس تداعب وجنتي.. فتحت عيناي على أصوات صراخهم تخترق سامعي: لقد غابت عن الوعي..!
شدني حلم الهروب جعلني أتساءل: ترى ما حدث لها؟