الوحدة المنشودة والتمشيات المفقودة
| ما انفكّ السيّد الرئيس المنصف المرزوقي يؤكّد في مختلف المناسبات تمسّكه بخيار الوحدة بين تونس و “شقيقاتها” في مستويات مختلفة: حديث عن الاندماج خلال زيارته إلى ليبيا، تأكيد على أهميّة وحدة المغرب العربي في جولته المغاربية، ومؤخّرا من خلال وضع علمي الاتّحاد الإفريقي والجامعة العربية إلى جانب العلم التونسي في مكتبه خلال استقباله للزوّار. هذه المواقف جلبت ردود فعل مختلفة من الاستهجان إلى الترحيب في الفضاءات الافتراضيّة. ولئن كنت أقدّر في السيّد الرئيس حسن نواياه، على رغم ما تثيره تصريحاته من لغط، فإنّ مواقفه هذه بعيدة كلّ البعد على أن تكون مشروع وحدة حقيقي، بل هي مجرّد تصريحات عاطفيّة، ربّما كانت تحت تأثير الظرفية الثورية وإرادة استغلال فرصة ما يسمّى بالربيع العربي. ومشكلة العاطفة هذه كانت وراء فشل التجارب الوحدوية السابقة في الوطن العربي. فسرعان ما يقع الانسياق عند التفكير في الوحدة إلى الحديث عن اللغة المشتركة والدين المشترك والتاريخ المشترك والعدوّ المشترك ويتمّ التغاضي عن الاختلافات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الموجودة بين مختلف البلدان، كما حدث في تجربة الوحدة بين مصر وسوريا الّتي يصفها إحسان عبد القدّوس في إحدى رواياته بـ”زواج العاطفة الملتهب” الّذي سرعان ما انتهى بالطلاق، دون أن يتمّ الثلاث سنوات.
ولا يمكن أن تنجح أيّ تجربة لا تأخذ بعين الاعتبار الاختلافات الموجودة بين الشعوب والوقت المطلوب لتجاوزها. فالحديث عن كلفة اللامغرب وعن الـ2% المفقودة في نسب التنمية بسبب غياب الوحدة لا يعني أنّ الشعوب ستعيش في جنّة بمجرّد تحقّقها، بل أنّ الانتكاسات الّتي قد تتعرّض لها تجربة مماثلة قد تتسبّب في فشلها والرجوع إلى وضعيّة البداية، إذا لم تكن مبنيّة على أساس موضوعي يحقّق مصلحة كلّ الأطراف في إطار مشروع على المدى الطويل ذي مراحل متعدّدة في مسار تصاعدي تمهّد فيه كلّ مرحلة إلى المرحلة التي تليها ولا يتمّ المرور إلى المرحلة التالية إلا بعد نجاح المرحلة السابقة. ويمكن في هذا الإطار الاستئناس بتجربة الاتحاد الأوروبي الّتي انطلقت منذ 1951 بين ستّ دول لا يجمعها ما يجمعنا، بل أنّها كانت ما زالت تعاني ويلات حرب مدمّرة جمعتها كأطراف متحاربة على ميدان القتال، وكان ذلك بخطوة بسيطة: وضع قطاعي الفولاذ والفحم في مختلف هذه البلدان تحت إشراف هيئة مشتركة، ثمّ تطوّر المشروع شيئا فشيئا فوقع المرور من اتفاقية روما (1957) التي أحدثت السوق الأوروبية المشتركة إلى توحيد الهيئات (1967) إلى التوقيع على الوثيقة الموحّدة الأروبية (1986) إلى اتفاقية ماستريخت (1992) التي أحدثت الاتحاد الأروبي إلى اتفاقية لشبونة (2007). واقترن ذلك بقبول أعضاء جدد ممّا رفع عدد الدول الأعضاء إلى 27 حاليا. ولا زال المسار متواصلا.
وليس من الضروري أن يبدأ مشروع الوحدة بين البلدان العربية بالمجال الاقتصادي (وإن كان الاقتصاد هو أبرز مظاهر المصلحة). فيمكن أن يكون بناء مشروع ثقافي وفكري مشترك هو قاطرة الوحدة، ولا تستدعي البداية الكثير، بل يكفي لذلك حتّى مجرّد إحداث لجنة مشتركة لتوحيد رسم الهمزة بين المشرق والمغرب !