لا عرش لي إلا أناي … لا عيش لي بين الهوامش
|لعل الشيء الوحيد المفرح..أو المطمئن الى حد الآن في حياتي ..هو أن الحقيقة لا تزال أمامي…لم اكتشفها بعد..لم تعترضني بعد…أعرف أني فى طريقى اليها..أنا محظوظة إذن…فأنا عكس الكثيرين…فإما تغافلوا عنها..و استمروا يبحثون عنها فإذا هم يصطادون السراب…أو بقيت حقيقتهم خلفهم..فعادوا اليها ..فإذا بهم يسيرون الى الوراء
يسيرون عكس الزمن…
لعل الشيء الوحيد المفرح في حياتي هو أنني لم أتأكد بعد من أي شيء…ولم أثق بعد ثقة كاملة في أي شيء…فالثقة المفرطة في الاشياء تعني وجوب التحضر لخيبات الأمل…وأنا… لا أتوقع أن تكون لي قدرة على تحمل المزيد من خيبات الامل….
الحقيقة إذن…هذا اللغز الكبير الذي يغرقني حتى أخمص القدمين في قلق وجودي عميق…ما هي الحقيقة..أين تختفي..أتكون في شخص..أم في شيء…أتكون في زمان ما..أم في مكان ما..أتكون فى فصل ما…في إحساس ما..أتكون خلف السحاب…بين الاشجار …في الطريق العام….في قاع المحيط…أين الحقيقة في حياتي و اين الخيال…
وأنا أمشي في الطريق العام…كانت عيناي معلقتان في السماء…أستجديها في قلبي أن تعطيني علامة واحدة..لا اطلب سوى إشارة…أو نصف إشارة..إلى وجود حقيقة ما…إلى وجود شيء ما..يدفعني إلى مواصلة الحياة باقتناع…برغبة….شيئا واحدا يدفعني إلى الانطلاق في الوجود بكل ما فى القلب من حب للحياة…
لم تعطني السماء إشارة واحدة…ولا الوجوه الكثيرة المتشابهة التي تعترض طريقي أينما ذهبت…الأرض تكاد تنفجر…الجنس البشري يتكاثر بطريقة مريعة ..تسونامي من البشرية يتراكم بعضها فوق أجساد بعض…فيحجبون الرؤية ولا يعود في الفضاء متسع للحقيقة…كنت أمشي شاردة الخطوات…وأعرف أني عبثا..أحاول أن أجد أناي في الزحام أيقنت الآن… أنّ حقيقتي ماتت ودفنت..قبل أن تولد..
بدون حقيقة..أصبحت أجوب شوارع العاصمة.. بدون تاريخ..بدون ذاكرة …بدون شيء يذكر…أجوب الشوارع و عيناي معلقتان بعطش في السماء ..أنتظر الاشارة …أتساءل أحيانا…
اعتقدت في البداية أن الحب هو الحقيقة الازلية الوحيدة… وكدت أن اقتنع نهائيا بتلك الفكرة..لكني مع الايام اكتشفت باني مخطئة و أن الحب ليس شعورا ثابتا ثبوتا ابديا كما اعتقدت …بل هو متغير ومتقلب ..وجوده في حاضري ليس معطى كاف لطمأنتي ..فإن غمرني اليوم بمشاعر جياشة و أكسبني هذا الاحساس بالسعادة والرضا …فلا أضمن أن يستمر هذا الشعور غدا..كل الاشياء واردة ..الرحيل المفاجئ..الهجر..الموت..الحب مرض جميل..إدمان جميل على الشخص وكل ما يتبعه و كل ما يحيط به..إدمان على الصورة والصوت والألوان ومكان اللقاء الاول..ومكان القبلة الاولى…إدمان حقيقي يدخل المحب في حالة من الغيبوبة العجيبة بحيث يغيب العقل تغييبا كليا و يصبح القلب هو الناطق الرسمي الوحيد باسم الكيان البشري و السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية ..أليس الحب اذا هو أفيون المحبين ..يكبرهم و يقزمهم و يعلو بهم ويسقط بهم و يحرك كل الخيوط..هو الوهم الجميل والحلم القصير و أمر لا يعدو أن يكون في النهاية سرابا وهباء كامل التكوين…
و يوم يمضي كل في طريقه بعد أن يجف نهر الحب الجفاف النهائي ويجرد كل طرف من وهمه وينفض عنه كل أسباب الإدمان..يعود إلى الواقع بشوق ولهفة تشبه لهفة العائد الى أرض الوطن بعد غياب طويل…
الحب ليس الحقيقة إذن أو الحقيقة لا تكمن فى الحب..فلا يعقل أن تكون الحقيقة وهما..أو مرضا …أو حلما…أو شيئا متغيرا…الحقيقة لا تخضع لمنطق النسبي..يجب أن تكون ثابتة في مكانها..وكل عناصر الوجود تحوم حولها….
اعتقدت فيما بعد بأن الحقيقة تكمن في الوطن…اعتقدت بأن هذه الكلمة شقت عباب التاريخ و تربعت على عروش القلوب منذ زمن…لا مجال للتشكيك في قيمة الوطن وعظمته ..في هذا الشعور الرائع بالانتماء الى كل ركن من أركانه…الوطن يشبهني بأمي..و يرسم لي صورة الاحتواء الأمومي الدافئ ..هو المأوى والمهرب الأول والأخير ..لكني اليوم أشعر فيه باغتراب شديد..بعد أن أصبح كثور عليسة ..جردوه من جلده… و أحاط كل طرف منطقة فيه وانتصب فيها مكشرا عن انيابه كذئب جائع و صاح …هذه منطقتي و لا يقطنها إلا من أريد..ولا مكان للبقية هنا…كل من تخترق قدمه هذا الحد أصبح في عداد الأموات…
أصبح وطني مشتتا ..نهشوه كما تنهش الأسود الجائعة لحم الغزال الغر..حجبوا عنه أشعة الشمس وكل ذرة نور من شانها أن تكون دليلا على الحياة… فأصبح وطنا يرتدي الحزن ثوبا ابديا..أصبح وطنا كئيبا يعيش الحداد الازلي…لا ألوان فيه..ولا موسيقى…ولا زمرة من المغنين الهاوين أو المراهقين الموهوبين المفتخرين بشبابهم يعبرون الازقة وينشرون البهجة فى كل بيت ويرسمون الابتسامة على كل ثغر…بل أكثر من ذلك..أصبحت أحس بالخوف من وطني..أخاف أن يلفظني ذات يوم لاختلافي ..أصبحت أخاف أن لا يعود لي فيه مكان…أخاف أن يبعدوني عن أهلي و أصدقائي و كل من أحب لمجرد أني مختلفة..لمجرد أني أفكر…لمجرد أني أبحث عن الحقيقة…لمجرد أني عكسهم…لا تزال الحقيقة أمامي ..وأنا في طريقي اليها …هل اصبحت افكارى و افكار غيري تمثل خطرا وتهديدا للأمن العام…هل أصبحت أفكاري وباء أو مرضا عضالا وجب استئصاله من الجذور قبل أن يتفشى و تصعب بعد ذلك معالجته… وكيف ألتمس عذرا لمن فعلوا هذا بوطني…كيف ألتمس لهم عذرا بعد أن انجبوا من القمع الذي امتد واتسع مولودا خطيرا هو العنف ..الم يكن من الأجدر لهم أن يكرسوا الامن والحب والسلام مكان البغض والحقد والكراهية …أ لم يحن الوقت لترتفع الاصوات و تتضافر القوى وتتنبه الضمائر من اجل وضع حد لهذا العار الذي يجللنا جميعا….
الحقيقة إذن…أدركت الآن أنها لا تكمن في الوطن…الوطن المنتهك المتعب الذي لا تشرق عليه شمس لا يمكن أن يصل إلى مستوى الثبوت…وليس ضمانا لشيء يذكر…ليس الآن..ولا بعده…
سألت صديقا…ألا يمكن أن تكون علاقتي الوطيدة بالله هي الحقيقة..فرغم كوني لا أواظب فعليا على اقامة الفرائض إلا أن لي تواصلا وثيقا بالله عز وجل وأذكره كثيرا في يومي و أفكر فيه كثيرا …ألا يمكن أن تكون تلك هي الحقيقة التي ابحث عنها…
ابتسم في هدوء وقال بثبات..أعتقد أن العنصر الديني هو من إبداع الانسان خلقه فقط ليسد ثغرات جهله …لكن أ تعلمين…أتمنى لو أنه موجود حقا…أنا فعلا بأمس الحاجة ليكون الله موجودا ويراقب ما يفعل الجهلة بالدين..سيكون الله حتما اسمى بكثير مما يدعيه بعض الانذال من حماقات…
لأول مرة في حياتي..أتأمل السماء ولا أطلب الاشارة ..لأول مرة في حياتي اشعر باني اقترب منها ..بأني أكاد ألمسها…أكاد أتنفسها
شعرت بأني بدأت ألتقي نفسي..بدأت أتعرف عليها..أحسست بأن القلق الوجودي الذي أعاني منه مذ فترة قد شارف على الأفول…
الحقيقة هي أن أتحرر من هواجسي…ومن كل شيء …من الغد و من حطام الذكريات…من أمل كاذب في وجود فردوس ارضي … من ألم دفين خطه الزمن على وجنتي…أن أتحرر من كل العقد التي كبلتني و من الحيطة التي خلفها الاحساس بالندم أو جرح عاطفي عابر…كالطير صرت بين عشية وضحاها …لا أنتمي لشيء أو لشخص محدد… أكون كما أريد…أعيش بحلمي ولحلمي.. فمن لا حلم له..لا أمل له…لا مستقبل له.. أعدو وأسابق الريح و أرتمي في احضان الطبيعة و أستلقي على ظهري و أرتفع بروحي الى حدود السحاب…حقيقتي هي أن أكون كائنا كونيا..ديانتي الوحيدة هي حب الحياة…حب النصف الأعلى من الكون وكل ما يستحق أن يحب ……أن أبتسم في وجه البيض والسمر والسعداء والتعساء وأن أساعد كل يوم شخصا…مهما كان نوع المساعدة..ومهما كانت هوية الشخص…حقيقتي هي أن أعبر كل يوم عن حبي للأشخاص الذين ترعرعت بينهم و من عطفهم.. و اقتسمت معهم الابتسامة والدمعة وأشيائي الصغيرة…فقد لا يتسنى لي فعل ذلك غدا…حقيقتي هي أن أسعى الى المثالية ..أن أحاول الذهاب بأحلامي إلى أقصاها… وبالحب إلى أطرافه …
إذا ما استطعت اليه سبيلا …