أطوار غريبة و أياد خفية……..سكيزوفرنيا و دناءة سياسية
|الاثنين يوم صعب المراس، بداية الأسبوع و العادة المملة: الذهاب إلى العمل: إنها الحتمية الروتينية. كان نصيبي من النوم ليلة الأحد بضعة ساعات. لم أصمد أمام غواية الفايسبوك، و التحقت بفراش النوم على الساعة الثالثة صباحاً….لم أستوعب و لن أستوعب هذا التخصيص الصباحي لزمان ما بعد منتصف الليل. الليل في أوجه و نحن نتحدث عن الصباح و نتجنى على الطبيعة و على الشرعية الليلية !
الثامنة و الربع، أستقل السيارة، أفتح المذياع، سفيان بن فرحات في موعده الصباحي على أمواج شمس ف.م. أفكار وهواجس سوداوية تنتصب في مخيلتي دون استئذان : سفيان بن فرحات يهم بالصعود في سيارته، عندما تقتنصه خمس رصاصات غادرة…..هلع وفوضى….سيارة الإسعاف…..الشهيد الثاني. و كأنني أستشرف سيناريو جزائر التسعينات…….أستحضر صوراً مرعبة من كتاب “بما تحلم الذئاب” لياسمينة خضرة.
زحام في الطريق، لم يتغير شيء: هدر للوقت و ضغوط نفسية .إن بعد العسر يسرا…..هي في الأصل آية قرآنية و لكن ألم يكن العقل البشري سباقاً إلى اكتشاف هذا المغزى ؟ أتذكر الدكتور سليم اللغماني و محاضرته عن المعتزلة : النص الإلهي لطف و العقل البشري هو الذي يكيف و يصبغ المعاني على الأشياء…..تتحرك في مدرعات التهكم لأتذكر مقطعاً من أغنية لأم كلثوم :إنت فين و الحب فين….فيرد عبدالحليم بسرعة “موعود معاي بالعذاب يا قلبي”. صدق المتنبي عندما قال “ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ “. العقل المستنير و المغامر…محنة الحاضر و أمل المستقبل.
أكاد أصطدم بسيارة أمامي، أعود لأنسجم مع المذياع علني أصل سالماً إلى العمل. رمزي بالطيب الصحفي بموقع نواة، نجم صاعد في مجال الصحافة الاستقصائية، يتحدث عن الجهاز الموازي بوزارة الداخلية. استوقفني حديثه عن الأوامر التي تلقاها الحارس الشخصي لراشد الغنوشي من عند هذا الأخير والمتعلقة بانتداب شباب بغية تدريبهم على الفنون القتالية و الرمي بالرصاص…..السيناريو الجزائري….مرةً أخرى……
ألتحق بمركز العمل…..و أي عمل في هذا الجو الخانق. كالعادة حاجب الإدارة بصدد قراءة جريدتي اليومية : هو دائماً في حالة غليان ، يحدثني عن برنامجه المفضل “التاسعة مساءً” وعن شطحات رجال السياسة. إنه فلكلور الثورة المهيمن و ذلك في انتظار تحقيق أهداف الثورة…..المؤجلة إلى يوم الدين!
يوم ممل في العمل، تحاول أن تبدع ، أن تكون خلاقاً ، و لكن تتكسر رغبتك في التغيير على صخور الجمود و التكلس. كثيرون أولائك الذين لم يعدلوا ساعاتهم بعد على توقيت الثورة الجديد و مازالوا مكبلين بسنين من النفاق و في كل يوم يقدمون فروض الطاعة……كلاب بافلوف لم و لن تتغير !
عند الإشارة تكون الساعة السادسة مساءً؛ أحاول دائماً أن أغادر العمل في هذا التوقيت….أحزروا لماذا ؟ إنها علاقتي المتعددة بالمذياع، ففي المساء تصبح عشيقتي المفضلة هي موزايك فم . أستقل السيارة مرةً أخرى، لأعود من حيث أتيت…..ضجرٌ ضجر……. عـزائـي وسلواي في كل هذا قبلةٌ و فرحة: فرحة ابني الصغير عندما يتفطن إلى وصولي لما أطرق الباب و قبلة زوجتي الدافئة والمطمئنة.
صوت ركيك ذو لكنة بليدة جدا يخترق هذه اللحظة التأملية، إنه وزير التربية، يتحدث عن الهارلم شايك و معهد الإمام مسلم : تضارب في تصريحاته ولغة خشبية من أعلى طراز. السيد الوزير، الذي لم يخرج عن صمته المطبق عندما تم اقتحام المؤسسات التعليمية من قبل الغرباء و لما امتدت أياد خائنة لتنكس العلم المفدى في أحد المعاهد؛ السيد الوزير،الذي لم تحرك أحاسيسه و لم تستفز قريحته جريمة القتل النكراء التي راحت ضحيتها تلميذة بإحدى المؤسسات التربوية بسليمان……الهارلم شايك هو الخطر المحدق بالمنظومة التربوية، الهارلم شايك هو الورقة الرابحة الأخيرة للحفاظ على كرسي الوزارة الوثير : إنها سيداتي و سادتي الدناءة السياسية !
خبر عاجل : وفق بعض التسريبات، قامت قوات الأمن بالقبض على شريك أساسي في جريمة قتل شكري بلعيد و ذلك بمنطقة الكرم……وهي بصدد تعقب القاتل. أتوقف على مستوى الحزام الجانبي للطريق، أحاول أن أجمع أفكاري : الكرم….. رابطة حماية الثورة….ثم أتساءل: بأي منطق و وفق أي تحليل يمكن أن أقبل بدون أي مقاومة فكرية أن منفذي هذا الاغتيال لم يغادروا منطقة الكرم إلى يومنا هذا للهروب بعيداً ؟ فمسرح الجريمة هو على مرمى ثلاثين دقيقة من هذه المنطقة؛ أتحول إلى شارلوك هولمز دائم الشك والتساؤل….أتحسس أياد خفية تسعى لغلق ملف اغتيال شكري بلعيد في سرعة البرق حتى تعود الحياة إلى نسقها الروتيني. هم دائماً كذلك، يسعون لضرب الذاكرة لأنهم غرباء…… “جماعتهم مهاجرة خارجنا وإن كانت فينا” كما قال الشاعر أبو معاذ.
تأخرت في العودة إلى المنزل. بعد اغتيال شكري بلعيد أصبحت مسألة الوقت والتوقيت ثانوية. إننا في مركب تتقاذفه الأمواج الغاضبة، وفي قلب العاصفة يغيب الزمان لأن المأساة تحتكر كل شيء….كل شيء. أقود السيارة و عيناي في السماء، قبة السماء السوداء اللامتناهية تهيمن على أحاسيسي….مشاعر متناقضة تتقاذفني : الليل حرية / الليل قد لا ينتهي، الليل تأمل/ الليل توجس و هواجس. أنحرف بالسيارة وأكاد أن أسقط في خندق تم حفره في إطار أشغال لديوان التطهير….و كالعادة لم يتم ردمه كما يستوجب : لم يتغير شيء. إنها سكيزوفرنيا الثورة….إرادة التغيير و العقليات القديمة المتمترسة؛ حلم الحرية وشيطان الهوية.
شكري بلعيد مرةً أخرى، لا تغادرني التساؤلات، حدسي يتمرد و يدفعني إلى استغوار ما وراء أحداث اليوم، أحاول أن أجمع أفكاري علني أستجلي سر هذا الإعلان السريع و المتسرع من قبل وزارة الداخلية : رمزي بالطيب…الجهاز الموازي….الحارس الشخصي لراشد الغنوشي ؟؟؟ قصف مركز من الدلالات والفرضيات و تفكيري استنزفه التركيز في هذا اليوم الطويل.
الواحدة بعد منتصف الليل…أضع رأسي المتثاقل فوق الوسادة و أطلب من عقلي أن يدخل في هدنة ليلية……تذكرت أني لم أقرأ الجريدة بعد أن صادرها الحاجب طوال اليوم، أحاول أن أتصفحها و أن أقوم بقراءة سريعة بنصف عين : سامية عبو تؤكد على تمسكها بأقوالها فيما يخص اتهام القايد السبسي بالضلوع في جريمة اغتيال شكري بالعيد، مصطفى بن جعفر في فسحة من فسحه الأجنبية الدورية يؤكد على تضامن تونس الثورة مع السجين الفلسطيني الرمز مروان برغوثي……معتوهة تسعى لأن تكون دائماً تحت الأضواء كلفها ذلك ما كلفها، وخائن للأمانة يسعى لاستعادة عذرية سياسية أو يوهمنا بذلك لبضع لحظات تحت مظلة القضية الفلسطينية…..معتوهة و خائن قاسمهما المشترك الانتهازية.
ينتهي مشوار هذا اليوم…أخلد إلى النوم. غريبة سذاجة الإنسان، ينام و هو مطمئن كل الإطمئنان و متأكد أنه سيفتح عينيه في الصباح، ككل صباح….النوم، رحلة في سرداب الموت دون ضمانات، كل ليلة قد تكون الأخيرة، ذلك قدرنا…..أن نحيا كالأراجوز رغماً عنا….و أن نعيش هذه الحياة كالبلياشو حتى لا نموت في أول الحكاية….. قدرنا أن نكتب على ورق يحترق…..