عن الزردة التي تفجّر الرغبة…
|[et_pb_section admin_label=”section” fullwidth=”off” specialty=”on”][et_pb_column type=”3_4″ specialty_columns=”3″][et_pb_row_inner admin_label=”row_inner”][et_pb_column_inner type=”4_4″ saved_specialty_column_type=”3_4″][et_pb_text admin_label=”النص”]
بقلم: سوسن فري
ولدت بين الجبال والسهول والوديان والحقول… في ذلك الشمال البعيد… بين أحضان طبيعة سخيّة… هناك حيث تخّط جغرافيا المكان تضاريس الإنسان…
بين حضن جدّي وحِجْرِ جدتي، وذكرياتهما وأحاديث هما التي لا تنضب عن ماضيهما وماضي قريتنا التليد. مضت طفولتي وسنوات شبابي الأولى، كحلم ليلة صيف…
رغم أنّي ولدت ونشأت بالمدينة، إلا أن كرهي ومقتي لها ما فتئ يتعاظم. لم أكن أعثر على توازني، إلا عندما يحاصرني الفيء من كل الزوايا. أجمل ذكرياتي وأهّم ما خطّ ملامح شخصيتي، ملامح تلك الطبيعة الهادئة.
أذكر بأني وفي إحدى زياراتي القليلة إلى العاصمة فيما مضى، عندما بدأت أعي ما حولي قليلا، وكان لي من العمر عشر سنوات فقط حينها. أصابني الهلع الشديد عندما صعدت إلى السطح وأجلت ببصري فلم أعثر على الجبال !
هناك، في الشمال عندنا، في قرية جدي، حيث مراتع الصبا الأولى، تحيط بنا الجبال الممتدة الخضراء من كل الجهات… كنت أظن حينها، وأنا الطفلة الصغيرة، بأنه لا يمكن أن توجد حياة حيث لا توجد الجبال !
لا أردي أي حنين جارف هو ذاك الّذي يمزّق صدري الآن ويدفعني دفعا كي أخّط هذه الأسطر…
تداهمني بعنف ذكرى جدّي وجدّتي، ومعهما ذكرى “الزردة”
في مثل هذا الوقت من كل عام، وقبل أربع سنوات تحديدا. كنا ننظم، هناك في قريتنا البعيدة بوادي مليز، حدثا عظيما يحّج إليه الأهل والمغتربون من كل حدب وصوب، ندعوه “الزردة”.
كان يوما مشهودا، يلتئم فيه شمل الجميع وتقام الاحتفالات وتترّدد الأهازيج إكراما منا لروح الولّي الصالح “سيدي العَرْبِيْ”. ذاك الذي انتصب ضريحه في شموخ باذخ على أعلى وأجمل ربوة هناك. طبعا لم أكن أؤمن لا بعطاياه ولا بكراماته، بل إني كنت أسخر ! لولا أني لا أنكر وإن أنكرت، الوقع البالغ لتلك الاحتفالات على روحي
تلتئم الزردة إلزاما في النصف الأوّل من خريف كل عام. ويشرف على تنظيمها الولد البكر لإحدى عائلات العشيرة التي توارثت هذا الشرف أبا عن جد ومنذ أمد بعيد، ويسمونه وكيل الزردة. وشاءت الصدفة أن يكون هذا البكر زوج خالتي، وأن تنتظم كل الاحتفالات في بيت خالتي. فكنت حاضرة وملمة بكل التفاصيل.
يتم الإعلان عن الزردة قبل أسبوعين من يوم تنظيمها في مرتين متتاليتين. حيث يطوف الوكيل في الأسبوع الأول بسوقنا الأسبوعية ويردد لثلاث مرات:” بأمر الله وأمر الصالحين، زردة سيدي العربي يوم كذا وكذا ” ويكون بذاك قد أعلن عن موعد الزردة ويقال بأنه “علِّمْ” وفي الأسبوع الذي يليه يطوف مجددا بالسوق ويردد نفس العبارة ويكون بذاك قد أكد موعدها ويقال بأنّه “بَرَّحْ”.
يوم الزردة، تنتقل حركة السوق لذاك الأسبوع إلى موضع الضريح. هناك، فوق الربوة. حيث تنتصب “القواطين ” منذ ساعات الصباح الأولى.
مع بداية أولى إشراقات شمس ذلك اليوم، تصطّف النسوة، وخاصة الجدّات منهنّ، حول باب الضريح المبارك قبل أن يسمح لهنّ بالدخول برفقة أطفالهّن وأحفادهنّ إليه. فيشرعن في تقبيل “التابوت” بخشوع مهيب. بعد أن يتضرعن إليه بسيل من الأدعية والأمنيات. وبعد أن يتمرّغن فوقه ويشعلن شمعة أو شمعتين ويضعن بعض المال عنده ويغادرن.
ليلا، وبعد أن يشرع الليل في إسدال أولى ستائره. وبعد أن تتّم تهيئة ساحة القرية جيدا لاحتضان تلك الليلة الموعودة. يبدأ الناس في التوافد على بيت خالتي زرافات ووحدانا كي ينالوا نصيبهم من الكسكسي “للبركة”.
هناك تعلّمت ما معنى الجود. هناك تعلّمت ما معنى أن تفتح باب بيتك وتجعله مشرعا للغرباء.
بعد كل ذاك يفترش الأهالي والزوّار الأرض في شكل حلقة ضخمة. ليدخل الفرسان بأحصنتهم إلى وسط الساحة فيشتعل ليل القرية البهيم بالبارود ودقّ الطبول وترديد الأهازيج على وقع صهيل الأحصنة.
على وقع تلك الأهازيج، خبرت أذني معاني الكلمة البدوية الأصيلة وأضحت روحي تهتّز لوقع ألحانها.
في الهزيع الأخير من الليل، وبعد أن يغادر الفرسان وأحصنتهم. تنطلق الجولة الثانية من الاحتفالات. أجمل وأقرب ما في الحفل إلى نفسي. فبعد أن تحمّى الكوانين وتتّقد جمراتها وتستعر نارها، يطاف بها وسط الساحة فتغمر رائحة البخور الجميع وتطغى على كل الموجودات. وينطلق ضرب البندير. وما إن يصدع البندير بأولى نغماته حتى يقفز الجميع، نساء ورجالا، إلى وسط الحلقة، وينخرطون جميعهم في موجة محمومة من الرقص.
عندما كنت طفلة وقبل أن تتشكل ملامح أنوثتي كنت أرقص بدوري… هناك في الساحة. أرقص طويلا وكثيرا حتى يعييني الرقص.
بعد أن كبرت وبعد أن برز نهداي أصدر جدّي، وهو رجل صعب المراس رغم حنانه البالغ “فرمانا “بمنعي من الرقص يوم الزردة وأصّر على عدم دخولي إلى وسط الحلقة.
لم أرضخ طبعا، وتمرّدت. وتمسّكت بحقي في الرقص. في إحدى المرات، أصرت أمي على منعي من الرقص وأمسكت بي بإحكام ووضعتني في حجرها، فركلتها وهربت من يديها وقفزت إلى وسط الساحة بعد أن قرعت أولى ضربات البندير وشرعت أرقص.
لم أكن أفقه الكثير مما كان يدور حولي داخل الحلقة في البداية. كنت صغيرة. ثم لما بدأت أكبر ولمّا بدأت أقدر على فكّ أولى حروف لغة الأجساد بدأ الكثير مما كان عني غائبا في التبّدي…
أضحيت ألاحظ بيسر لغة العيون وألمح بوضوح تلك النظرات الشبقة المنبعثة منهم وأعاين بسهولة تلامس الأجساد وارتطام النهود بالصدور والأرداف بالأفخاذ، أضحيت أعاين بأكثر دقة ما يصنعه البندير بالأجساد والبخور بالرؤوس. أضحيت أدرك كيف تتأجج الشهوة بفعل كل ذاك وكيف تستعر حمى الأجساد…
وأضحى جسدي يستعر هو الآخر…
أذكر بأن جدتي أخبرتني فيما مضى بأن جلّ الموجودين ممن يرقصون لا يبيتون ليلتهم تلك، ليلة “الزردة ” إلا وقد مارسوا الجنس…لم أتبين حينها كنه العلاقة التي تربط ما بين الاحتفال بالزردة والجنس واستغربت كثيرا وهزئت من قول جدتي…و بعد أن كبرت وفهمت ما يدور داخل الحلقة وعاينت فعل البندير بالرؤوس أصبحت قادرة على تفكيك أسرار تلك العلاقة بأكثر يسر…
اليوم وبعد ان مات جدي وبعده جدتي بأشهر معدودات وبعد أن إمتنع أهل قريتي عن إحياء ” الزردة”. لا أدري لم خطر كل هذا بذهني اليوم ! لا أدري لم هاجمتني هذه الذكرى.
ربّما لأنهم أضحوا جميعهم مجرّد ذكرى…
[/et_pb_text][/et_pb_column_inner][/et_pb_row_inner][/et_pb_column][et_pb_column type=”1_4″][et_pb_sidebar admin_label=”Sidebar” orientation=”right” background_layout=”light” area=”sidebar-1″ remove_border=”off”] [/et_pb_sidebar][/et_pb_column][/et_pb_section]