أي دور للمثقف التونسي اليوم؟

بقلم: كريمة بريكي

   يبدو لي أن الوضع الذي نعيشه اليوم يلقي على المثقف مسؤولية تقريب المسائل النظرية إلى عموم الناس أي نشر الثقافة العلمية لتسّلم المواقف من الدغمائية والانفعال وهو ما نسميه عادة بعملية “تبسيط المعارف” Vulgarisation.

واعتبارا لما يمكن أن تتعرض له العلوم من تسخير ايديولوجي مثل استغلال الانثروبولوجيا لدعم العنصرية أو العلوم البيولوجية لمناصرة أطروحة اللامساواة بين الرجل والمرأة وذلك بتحويل الفوارق “الفيزيولوجية” إلى فوارق “قيمية” وهو ما نسميه “تزييف المعارف” ، كان من الضروري تدقيق معنى ”تبسيط ”المعارف وخاصة كيف نميزه عن تزيف المعارف؟

وكيف لنا أن نتحسس أبعاد هذا الإشكال النظري منها، والعملي على ضوء ما يعيشه الوطن من تحولات اجتماعية وسياسية، واقتصادية ؟

 إذا ما عدنا إلى أوغيست كونت (Auguste Comte) لنستأنس به لا لنقلّده أدركنا أن السؤال الذي طرحه هذا الفيلسوف الفرنسي على نفسه هو اقتراح مخطط الهدف منه كيفية ”إعادة تنظيم المجتمع” ؟ بعد حصول الثورة الفرنسية أي المرور من مرحلة الثورة بما فيها من مصاعب وأحقاد ومطالب وخصومات، إلى وضع الدولة بما تتطلبه من نظام وإقبال على الإنتاج والعمل النافع .

 وهذه المهمة يجعلها Auguste Comte من مهام رجال الصناعة، في حين يوكل إلى المثقفين من فلاسفة وفنانين ورجال القانون مهمة نشر قيم الفكر العلمي أو الوضعيpositive الذي يلائم العصر الصناعي. وهو يعتقد أنه كما كان الإنتاج الاقتصادي في العصر الوسيط بيد الإقطاع والتربية الروحية والقيادة الفكرية بيد رجال الكنيسة، فإنه على المثقفين في العصر الصناعي والعلمي أن يحلوا محل الكهنوت المسيحي فهم قادة المجتمع في حياته الروحية كما أن الصناعيين هم قادة المجتمع في حياته الاقتصادية.

والمهم في هذا المذهب ليس مضامينه، بل مقاصده وهي مقاصد تشير إلى أن المثقف  يلتزم عفويا أو إراديا بحركة مجتمعه ويلتصق بطموحاته. وهو ما تعنيه إجمالا فكرة ”المثقف العضوي عند انطونيو قرامشي الذي يعتبر أن كل طبقة اجتماعية تنشأ على أرضية الإنتاج الاقتصادي تولّد بشكل عضوي فئة أو عدة فئات من المثقفين تتمثل وظيفتها في أن تصبغ تلك الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج بضرب من ”التجانس” Homogénéité ومن الوعي بدورها وبوظائفها وبأهميتها اقتصاديا، وسياسيا واجتماعيا. فإذا كان صاحب المبادرة الرأسمالية هو عند قرامشي أول أنواع ”المثقفين” فانه يرى أن هذا المبادر الرأسمالي سرعان ما يوجد لخدمته التقني الصناعي، وعالم الاقتصاد، ورجل القانون الجديد والمثقف الذي يبدع ثقافة جديدة. ويعني ذلك أن المثقف ليس مستقلا بذاته لا في تفكيره ولا في معاشه سواء عند اوغست كونت أو عند قرامشي.

 فكيف نفسر-والحال تلك- إصرار المثقف على ادعاء الاستقلال بالرأي والحرية في التفكير؟ نكتفي بالإشارة إلىBas du formulaire أن هذا الإشكال الذي طرحناه يتعلق بكيفية تصورنا للعلاقة بين الالتزام والحرية. فما يمكن أن تكون وظيفة المثقف التونسي اليوم بحيث لا يتناقض في حياته واجب الالتزام بما أراد أن يلتزم به مع حريته كمفكر؟

 نعتقد أن الواجب الملقى على عاتق المثقف اليوم هو نشر القيم التي نادت بها الثورة وهي الحرية والكرامة والمعاني اللصيقة بهما مثل أن الحرية لا تنفصل عن المسؤولية وان الحقوق لا تكون شرعية إلا بما يلازمها من الواجبات وان المنوال الاقتصادي الناجع والبادرة الاقتصادية الحرة لا تنفصل عن العدالة الاجتماعية. فالبعد الأول يحفظ البلاد من ويلات الفوضى وتعاسة الاستبداد معا. والبعد الثاني يكفل للبلاد تكاثر الخيرات من ناحية والسيطرة على مظاهر الاستغلال والأنانية

 نحن إذا أمام منظومة من القيم تتطلب تضافر جهود علماء الاقتصاد، والسياسة والفلسفة وعلم النفس والاجتماع والتربية حتى يتحقق التقارب بين النخبة أو الصفوة والجمهور وبين الاختصاصات الدقيقة وشيوع المعارف بين المواطنين. ولا ندعي أن هذه المنظومة القيمية كافية وحدها لتحقيق أهداف الثورة الوطنية ولكننا ندعي أنها ضرورية لتحقيق ما خلاها من القيم والمطالب.

   فكيف للمثقفين أن يشيعوا العلم دون تزييف لحقيقته خدمة للكرامة و للحرية والمساواة والعدالة والمسؤولية؟

   لابدا أن نشير هنا إلى مسالة على غاية من الأهمية وهي أنّ العلم واسطة أو وسيلة في حين أن الحرية والكرامة والمساواة والعدالة _غايات سامية. والعلم واسطة في موضعين: موضع إنتاجه على أيدي النخب العالمة في المخابر المتطورة حيث تكون له لغته التي تخصه ومناهجه الملائمة من ناحية وموضع شيوعه في صفوف المجتمع من ناحية أخرى.

  فالمرور مما يسمى ‘النخبة ” إلى “الجمهور” هو مرور من مواقع إنتاج العلم بطقوسها وآدابها، وقوانينها الذاتية، إلى مواقع استهلاكه أو استخدامه شتى ضروب الاستخدام. ويمكن أن نقول أنّ مطلب العلم في مواضع إنتاجه هو القانون العلمي أو قل الحقيقة الموضوعية في تجردها. إما مطلب نشر العلم فهو الفهم في خدمة الحرية والكرامة والمساواة والعدالة. فهل أتيح للجامعة التونسية باعتبارها مؤسسة علمية أن تساهم في نشر نتائج أبحاثها في المجتمع حتى يفهم التونسي معاني المواطنة والديمقراطية ؟

  ولئن كان المجال لا يتسع في هذا الموضع للوقوف على رهانات “التبسيط المعرفي” La vulgarisationأي إدخال العلم في النسيج الثقافي وإدماجه في بنية الوعي الجمعي فانه يجدر بنا أن نعي ما في ذلك المسار من المزالق التي قد تفضي إلى نقيض ما نريد أي إلى نفي الحرية. وها هنا تكمن أهمية دور المثقف العضوي بحق ويظهر بإلحاح ما ينتظره من تبديد سحاب الدجَل الذي تنشره فضائيات واسعة الانتشار.

ونحن نشير في هذا السياق إلى ممارسات منتشرة من خصائصها استبدال المفاهيم بالكلمات الطبيعية أي اللغة العلمية الاصطلاحية الرياضية باللغة الطبيعية والاستعاضة عن المعاني المجردة العلمية بالمجازات والصور بدعوى التقريب إلى الأذهان.

 ويكفي في هذا السياق أن نسائل المجازات والصور الزائفة للتعبير عن العلاقة بين المواطن والدولة حيث ينزل بها الشيوع المزيف إلى المجاز الرعوي فيصبح الحاكم راعيا والشعب قطيعا أو المجاز الأبوي حيث يكون الحاكم أبا والشعب أبناء قصّرا أو المجاز البيولوجي حيث يكون المجتمع جسدا والحاكم طبيبا. وفي هذه المجازات التي تطالعنا بكثير من الوضوح الزائف من قوة التخدير ما ينتفي معه الحس النقدي.

فالمجاز الأول يفترض أن الحاكم هو الذي يضمن للشعب غذاءه كما يضمن الراعي لقطيعه غذاءه والحال أن الشعب هو الذي يغذي الحاكم وليس العكس. أما المجاز الأبوي فإن ما فيه من حميمية وما يثيره في السامع من وجدان يخفي ما فيه من تسلط إذ يحكم على الشعب بالقصور والتبعية. أما المجاز الطبي فهو يقوم على قياس المجتمع بالجسد في حين أن الفوارق بينهما كبيرة. فالجسد يحقق طبيعيا انسجام أعضائه في حين أن انسجام المجتمع مع نفسه لا يكون إلا بإرادة الأغلبية من أفراده. فالانسجام الأول آلي ولا وعي فيه ولا خيارات له، والثاني إرادي وواع واختياري. وعلى تلك الإرادة وذلك الوعي وذلك الاختيار تأسست نظريات العقد الاجتماعي باعتباره أساس النظم الديمقراطية المبنية على حرية المواطن.  وعند هذا الموضع نتبين خصوصيات تدخل المثقف في تونس اليوم.

فهو مدعو إلى أن يواجه ضروبا من الأقاويل التي غايتها إما صرف النظر عن إشكال الكرامة والحرية والتلهية عنهما وذلك بإثارة مشاكل هامشية أو ثانوية أو على الأقل غير متأكدة في الظرف الحالي أو بالتلهي بإشكاليات خيالية هي ابعد ما تكون عن مطالب الثورة. وهو مدعو إلى نشر قيم الحرية والعدالة حتى تصبح بعدا أساسيا من أبعاد نسيجنا الثقافي ووعينا السياسي.

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 20، أكتوبر 2022

 للاطلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf20

 

 

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights