رحيل

بقلم: خولة القاسمي

–          لا تذهب…

كان ذلك آخر عهدها به، قالتها له بتوسل لكنه لم يستمع، ذهب، رحل ولم يعد. ليته استمع إليها، ليته ما مضى.

”كم تصبح الحياة قاسية حين نكتشف في لحظة أنها ذهبت هدرا” ذلك ما كانت تردّده مذ مضى.

قالت له: – يا ولدي لا تتبعهم… لا تذهب معهم…

لكنّه كان قد كره الفشل والفقر والفساد الذي لا يسلم منه أحد. ربما لن تغيّر هجرته غير الشّرعية شيئا لكنه سيتخلّص من هذا الوطن الذي يثقل كاهله بالانتماء إليه. ”ما الوطن؟” لطالما تساءل، ”لماذا يخونني شعوري وأكره هذا البلد الذي أعيش فيه لهذه الدرجة؟  أقسم لو أنه كان شخصا لقطعته إربا إربا ثم أحرقته ووزّعت رماده في  بقاع  متضادة من العالم حتى لا يُشيّد مجددا أبدا !”.  لطالما شعر أن بلده هو المسؤول عن فشله، عن قمعه، عن اغتصاب طموحاته ووأدها، لذلك كان يرغب في أن يرحل عنه بأي طريقة، وإن كان ذلك يعني أن يعيش في كنف الفساد بقية عمره، وإن كان معرّضا للموت قبل وصوله حتى.

لم يبالِ لتوسلات أمّه، لم يكفه أن سرق كل المال الذي كانت تجمعه لأداء فريضة الحج التي تاقت نفسها إليها، بل إنّها حين تفطّنت له كان مغادرا دون أن يفكر في توديعها أو النظر إليها.

قالت له: -يا ولدي، أسامحك لأنك سرقتني وأنا أمك التي سهرَتْ عليك عمرا وتحمَّلتْ الفقر والجوع حتى تَحفظ لك كرامتك وكبرياءك حين تكبر، أسامحك… فقط لا ترحل، لا تذهب، لا تتبعهم… وطنك يحتاجك وأنا… أحتاجك.

لكنّه أجاب بلا مبالاة صارخة: هل تُسمّين هذا وطنا؟ الوطن يسمح لنا بأن نعيش يا أماه وليس العكس. سأرحل يا أماه، سأرحل، أما أنت فإنّني أسامحك لأنّك جئت بي إلى هذا العالم. أسامحك، فقط لا تبحثي عني، وانسي أن لك ابنا في هذا العالم الكريه.

ردّت والعبرات تخنقها وهي تشعر أن الأرض تتداعى من تحتها:

-لا تذهب… لا تذهب…

ولكنه مضى، مضى تاركا ذلك البيت الصغير العتيق يحوي تلك العجوز المسكينة وهي تشعر أن الحياة تُنزع منها، مضى حاملا معه أنفاس والدته وراحتها، مضى باحثا عن حياة أفضل في عالم مليء بالسواد، لكنّ ظلمة البحر ابتلعته قبل أن يصل.

Please follow and like us:
2 Comments
  1. Hamden Fadhel

اترك رد

Verified by MonsterInsights