يا أبي ..سأجهض الحلم
|” هذا جناه عليّ أبي…وما جنيت على أحد”
أبو العلاء المعرّي
يقول أبي دائما ..
إن الانسان لا يؤتمن على الاشياء ..ولا على الاسرار..فكيف يؤتمن على المشاعر ؟..
ويقول أبي دائما..
لا تربّي الامل في عيون الاخرين فهم يرون ما يشاءون و يغضون البصر عما يريدون ..
لا تعولي على الآخرين ليحفظوك..و يدللوك..لا تعولي عليهم ليدعموك ..و يظللوك..وليرتقوا بك وبأحاسيسك
..فهم لم يرتقوا بأنفسهم..وقد ازدحم بهم قاع الحياة..
لا تعولي على الأشخاص ..فالبشر متحولون بطبيعتهم..سريعو النسيان..متعددو الوجوه..مزاجيون ..سحابيون..رماديو السريرة..مزيفو الشمع..ملوثو الدمع..وراحلون ..وسائرون على جثث ضحاياهم حفاة..وعابرون ..يوزعون الأكاذيب في سلال من ورود
فلا تصدقيهم إذا قالوا يوما سوف نعود..فلن يعودوا..
تأهبي للفقر العاطفي منذ البداية..ورتبي أحزانك في درج ما من الذاكرة ومري دائما على الجرح كمسافرة.. ولا تتركي محطة واحدة تحتكر خطاك..سيكون هناك محطات كثيرة..وأوهام حب..وفخاخ تنصبها العين واليد فكوني عمياء وعطلي كل الحواس وحصني نفسك من داء الخديعة حتى يأتيك القطار الموالي..لا تعولي على أحد ليسمعك..فصوت قلبك عورة في آذان الذئاب ..وقولي يا سري اقتلني أنت حلما وألما ..ولا تترك الآخرين يقتلونني بك..وقولي يا قلب عد من حيث أتيت فلا أمان هنا في اللامكان واللازمان ..كلهم كاذبون يمتهنون الخديعة وينتظرون الشتاء ليتدثروا بنسيج من جراحي..
ولا تنتظري أحدا ..ففي الانتظار موت ثقيل ..ووهم طويل ..وأرق ..وملح الدمع لا يروي التراب فلن ينبت منه غير السراب..فاعبري في الحياة كأمس ..ولوني أيامك بيديك..ومري على كاهل الكذبة مثل طيف.. حتى لا تهدري وقتك في الحنين..وانتبهي لمن يتقن الدور ويحكم الولوج منك إليك.. ولا تنتظري أحدا فلن يعود إلا من يراك بقلبه حتى لو أحبطته الحياة ..ولا تنتظري من يزعم الوفاء فوحدها الفصول وفية ……ولا تنتظري من ينسحب صامتا كالمساء دون استشارة ودون إشارة.. عمدا يغيب..حتى تحني..وحتى تئني..وحتى تجني من لوعة الانتظار..
ولا تصدقيهم..إذا قالوا ..سوف نعود..فلن يعودوا..
وآمني بنظرية الزوال ومنطق البطلان ..وتشبثي فقط بالأشياء الثابتة في حياتك..تلك التي تلاحظ حضورك وغيابك..وتحملق في ألمك كما لو كان ألمها..ولا تلتمسي أعذارا لمن يتركك في مفترق الطريق ولا يأبه لضياعك..تجاوزيهم كما تجاوزوك ولا تبكيهم فزهر الحديقة أجدر بعطر عينيك المقدس..ولا تبكيهم فالسماء تهتز لوجع الفراشة ..لا تبكيهم ما حييت..
فلا تعصر الروح لتروى الخديعة ..
وسيري بسرك مرفوعة الرأس دائما وفي القلب إيمان راسخ بأنه لا أمان حيث وجدت وحيث ستكونين ..حصني أيامك بيديك وازرعي النور في مقلتيك ولا تصدقي إلا ما تراه عيناك وما تسمعه أذناك فهم يزيفون كل شيء..ويعبثون بكل شيء..ولا تجلسي في محطة بعد القطار فكل قطار سيأتي قطارك أنت فلا تهدريه..وعيشي في قمة كالسحاب واسكني في الذاكرة كقطر الندى واعبري في الحب مثل فراشة وعانقي الامل حتى يمل منك الألم..ولا تشغلي الذاكرة بالفتات ولا تضجري القلب بالذكريات فما فات منا ما عاد منا بل يعني أشخاصا آخرين.. كانوا في يوم كاملين..واصمتي عند وقت الوداع ..ولا تتسلحي بأي قناع..كوني أنت في صمتك ..فالصمت يقولك ولا تشعرين..ولا تجرحي من اختار عنك الوداع ..فلن يستدير ولن يستعير من الأمس ذكرى لينتحر على حافة العاطفة ..فلا فرق وقت الغياب الكبير بين القاتل وبين الشهيد..والصمت والموت سواء..ولا تتعبي الروح بالمناجاة ليلا و كوني في الليل كعازف ناي..لا يكتفي من معانقة القمر..ولا تصدقيهم إن قالوا سوف نعود..فلن يعود من أضاع تذكرة السفر..
ليت الزمان يجدد شهادة ميلادي يا أبي..ليت المكان من حولي ينفطر وينشطر وأبدأ الدرب على نور كلماتك يا أبي..كم نحن أبناء الشيطان ..مرضى غائبين ..نستنزف الذاكرة ونعيش على هامش القلب ..تضيق بنا الأرض يا أبي ..والحزن يوسعه الرحيل ..فلم يعد أحد تماما.. لم يعد أحد أبدا..
كم تقصم الظهر الجراح..والقلب ككتلة من جليد ونار ..قصم ظهورنا الرحيل..بأنواعه..لا تهم الأنواع..تتعدد الأسباب والرحيل واحد..والحرقة واحدة..واللوعة واحدة..والجرح واحد.. مسافر أبدي هو الآخر في دمنا حتى أصبحنا مهووسين بعقدة الرحيل..
صدّقتك يا أبي بعد أن أنهكني الرحيل..الصامت منه والمخلف بعده أنقاض ثرثرة أو فتات شجار ..كم أنهكني ..وكم اعتزلت البكاء عند الرحيل احتراما لما تبقى من رسائل..ربما سيكتبها لي القدر ذات يوم ..
إذن..سأجهض الحلم قبل أن يموت بعد دقائق من ولادته..لن أترك شيئا خلفي تبكي من أجله السماء..لن أترك أشياء من صلبي يقتلها الرحيل من بعدي..لن أترك أطفالا لا يعرفون بعد لغة الحديث هناك ..ولا يعرفون طريق الوصول إلى المعنى في زمن اللامعنى فتبتلعهم الخطيئة ..لن أترك أطفالا مثلي..يقضون حياتهم مستائين ..يشحذون الحقيقة في ذروة النسيان ..أدمنت التمرد على الهشاشة والتحرر من قيودي ..لكن..تلزمني قوة خارقة لأكون معلمة حياة ناجحة..لن أستطيع..
..سأجهض الحلم..
..وإلى أولادي الذين لن يأتوا إلى الدنيا أقول ..
ها قد جئت أنا إليها ..وماذا بعد؟؟ ..ما الذي فعلته أو فعل من أجلي يجعلني أفقد صوابي من السعادة على منحي فرصة الحياة من بين مليارات من الاحتمالات ؟؟…
إن الحياة ليست الجنة يا أحبتي ..بل هي النقيض تماما ..الحياة ليست الجنة…
ها قد جئت أنا إليها ..لم أر شيئا مميزا ..لم أنبهر كما اعتقدت..لم اجد شيئا يشعرني بالذهول..بالعكس..في كل لحظة أعيشها بتضاعف إحساسي بالخيبة ..والظلم..والقهر…الحياة ليست فرصة ذهبية كما تتصورون…الحياة..ليست الجنة…
سيأتي يوم تنتهي فيه المهزلة…و سيفعل الجميع ما أفعله الآن..سيكتب الجميع لأولادهم رسائل قبل إنجابهم..ليفسروا لهم ماهية العالم ويوضحوا لهم الصورة ويحضرونهم نفسانيا للصدمة…أو ليعتذروا سلفا عن إجهاض الحلم..
سأحبكم كثيرا لو جئتم الى الدنيا…لكني سأحرص على ان لا تأتوا..حتى لا يتفاقم إحساسي بالذنب وبالمرارة كلما شاهدت نفس الخيبة في عيونكم.. حتى لا أتعذب لعذابكم وانتم ترسمون لأنفسكم الاهداف فيكسرها الزمن ..وأنتم تتعثرون بالحب فتغتصبه منكم الظروف هكذا.. بكل بساطة…
مالذي سيفوتكم لو لم تأتوا ؟؟؟
لن يفوتكم شيء..ستقضون نصف الحياة تطلبون العلم والنصف الثاني تطلبون الراحة من شقاء طلب العلم..سوف تعانون الالتواء حيثما ذهبتم ..لن تجدوا طبيعة خلابة وخضرة وهواء نظيفا كما اعتقدتم…ستغوصون في التلف حتى النخاع..لن تتنفسوا أكسجينا عاديا بل خليطا من السموم تمتزج فيه رائحة التبغ برائحة وقود السيارات برائحة النفايات المتراكمة في كل مكان..هل أنجبكم لكي اشاهدكم تموتون أمام ناظري دون أن يكون بإمكاني فعل شيء؟..
ستحلمون كثيرا ودائما..كما فعلت كثيرا..على أمل أن تتحقق الأحلام يوما..لكنكم ستكتشفون أنه كلّما تقدم بكم العمر ..صغر الحلم أو اندثر و حلت محله أحلام أخرى غريبة و كبيرة و مهمة ..لكنها مستحيلة التحقق ..لماذا ؟؟ لأنها الحياة …الحياة مرتبطة ابدا بالمستحيل ..الحلم حكر على النائمين ..وعلى الحالمين التائهين في ملكوت الله ..لا يعني ذلك أن كل الاحلام مستحيلة التحقق..لكن الأحلام لا تتحقق مجانا ..لا بد أن تقدم مقابل كل حلم ضريبة قد تدفعك أحيانا لبذل أقرب الاشياء إلى قلبك…لا يمكن أن تأخذ من الحياة كل شيء..لذلك نتعذب كثيرا يا أحبتي..ولذلك يموت بعضنا حسرة أيضا ..
مالذي ستفوتونه على أنفسكم…أصدقاء مثلا؟؟؟ لكن الاصدقاء انعدموا ذات خيبة وأصبحنا نختارهم وننتقيهم بكل دقة بما يتماشى مع مصالحنا الحاضرة والمستقبلية وما يتلاءم مع مزاجنا و نظام عيشنا وأهدافنا …
ستكون لكم طفولة بريئة تكاد تخلو من التفكير الماكر لكنها مرحلة لاوعي صرفة ..هي أشبه بالسباحة في فضاء هوائي خارج المكان و خارج الزمان و خارج الكينونة…فترة ستمر و تنسى كأنها لم تكن…بعدها بقليل ستبدأ المراهقة الرديئة بتجاذباتها وتناقضات القلب المزعجة والانجراف العاطفي نحو كل هاوية تعترضكم و التمرد على كل القوانين والنواميس وعلى الصحيح والخاطئ والمنطقي واللامنطقي بل هي مرحلة اللامنطق بامتياز…هي فترة الجنون التي تجعلكم تضعون العالم بأسره موضع تساؤل فيقذف بكم هذا الأخير إلى الهامش ..فتواصلون السباحة المضنية عكس التيار وتغرقون وتستنجدون و في الاثناء تتألمون ما شاء لكم أن تفعلوا ..وتمر المراهقة كعاصفة مدمرة لا تترك خلفها سوى كومة من العقد ومساحة واسعة من الحزن والقلق وتأنيب الضمير…وتكون آنذاك الاستفاقة من غيبوبة مرهقة…
تلك الاستفاقة المفاجئة ستكون أقسى كثيرا من الغيبوبة السابقة لأنكم ستدخلون مرحلة التفكير الجدي والتخطيط المستمر لمستقبلكم…المستقبل ..سيمسي هاجسكم الاكبر..سيقبع على قلوبكم كالدمل..سيعشش في أذهانكم كصخرة علقت في نفس المكان منذ آلاف السنين..ستحملون فكرة المستقبل على ظهوركم حتى تنحني و تنهار …رغم أن المستقبل ليس إلا حاضرا متأخرا يكفي ان تعيش كل ايامه بما فيها من مفاجآت سارة أو غير سارة حتى يضمحل ويندثر…لكنني سأزرع فيكم فكرة المستقبل ككل الأمهات..لأني لا أرضى بأن تكونوا أناسا عاديين تمرون في الحياة كعابري سبيل …لن أرضى بذلك..سألح ..سأكرر الكلام..سأجعل حياتكم جحيما…ولأنني أشفق على قلوبكم الصغيرة.. فقد عدلت عن التسبب بهذه المأساة..فمن شانها ان تحبطنا جميعا…
كنت سأحبكم كثيرا لو جئتم..لكنني سأحرص على الغياب..لأني أخاف عليكم من هذا العالم القذر…ما شأنكم أنتم بكل هذه القذارة؟؟…أنتم الكائنات السماوية الغيبية التى لم تدنس بعد ولم تمسسها ذرة واحدة من غبار الدنيا ..ما شأنكم بهذا العالم الأرضي التحتي الهابط الدنيء ..ابقوا لطهركم وعلوكم ..إنّ اللاوجود في هذه الحالة ارحم بكثير من الوجود..
لا أريد لأحدكم أن ينظر في عيني نظرة حيرة وتعجب و عتاب ..وحال لسانه يقول..ماذا فعلت بنا ياأمي ؟؟؟ أ من أجل هذا سحبتنا من فردوسنا السماوي ؟؟ أمن اجل هذا أنجبتنا ؟؟
لا أريد لأحدكم ان يوجه إلى نظرة دامعة كأنه بصمته يدينني على خطيئتي ..كأنه يسألني عن السعادة الموعودة المفقودة ..
كيف سأواجهكم حينها؟…كيف سأعبر وكيف سأبرر؟ وهل تبرر الجريمة ؟؟..
يا أبي..سأجهض الحلم
لن اكون سببا في تعاسة أناس لم يطلبوا المجيء يوما إلى الدنيا إنما جذبتهم إليها عنوة وقد وعدتهم سلفا بالحب والسعادة أن الحب في عالمكم السماوي يمنح مجانا ..لكنه في عالمنا يمنح بمقابل..السعادة أيضا تمنح بمقابل ..كل شيء هاهنا يمنح بمقابل…نحن نستعمل شيئا قذرا يحرك خيوط سعادتنا و ألمنا يدعى المال ..في عالمنا ..هو الذي يحيي وهو يميت..هو المحرك الاساسي للعاطفة أيضا ..بدونه بسقط الحب الى حدود الرذيلة ..فلا يمكن للجائع أن يحب ..ولا يمكن للعاري أن يعشق …في عالمنا كل شيء مرتبط بالمال ..وكل شيء محكوم بقانون الوراثة..الغني ينجب غنيا و الفقير ينجب فقيرا والمجرم ينجب سفاحا و الدميم ينجب دميما والوسيم ينجب وسيما …فبماذا اعدكم ؟؟ ومتى وكيف سافي ؟؟؟
كل الاحتمالات واردة..القبح وارد..والفقر وارد..والتأخر العقلي ..والضعف البصري..وداء القلب ..والسكري ..والتخلف الذهني ..والاكتئاب وارد..والشذوذ ..والتوحد والعقد النفسية..واليأس الى حدود الانتحار ..كل شيء وارد..فأي ضمان أقدمه؟؟..
هي هدنة مع الالتواء..هدنة مع الاستسلام للتفكير النمطي الماجن..هدنة مع عدوانية تسكنني رغما عني وتمزق جلدي ..عدوانية الذات للذات ..توارثناها عن غباء آبائنا وأجدادنا أولئك الذين صنعوا منا..عن جهل.. أعداء لأنفسنا..نعد القيود لأنفسنا بأنفسنا ..ولا يكفينا الجحيم.. فنجلب له بأنفسنا الزائرات والزائرين..
سأجهض الحلم يا أبي ..سأجهضه..
لن اكون مسؤولة إلا عن ألمي ..الاخرون ليسوا معنيين بمأساة وجودي..وحدتي..رغم مرارتها ..لن تفوق ألم التطلع إلى عذاب الاخرين المنقادين الى الجحيم الدنيوي عنوة..مدهوشين..لا يعلمون من أين أتوا والى اين هم ذاهبون..
سأقضي ما تبقى لي من العمر أعالج عطب الروح وأبحث عن مرفأ آمن أرتب فيه أوراقي المبعثرة والملم فيه اشيائي وأشلائي .. وحدي أغزل من ذاكرة مشبعة بالعطر ثيابا صوفية لشتاء العمر..فلا لحن غير لحني يوجع الدرب بعدي.. ولا بقاياي تقطع على الرذيلة طريقها..وحدي أكون تحت السماء وفوقها.. لا ضمير يؤنبني ولا ريح تناديني لأن اعود ولا عطر يذرفني على قمصان رجال الزمن القادم ولا طقوس تذكرني بنفسي ولا شيء يبقى لي مني يوجع الأحياء بعدي..إنه الخلود في صورته المأساوية..حيث اندثر تماما وانصهر بأدق مكونات في الطبيعة حتى اصبح جزء من كل شيء .. وأتحول في النهاية..
إلى قصيدة..أو الى أسطورة..