نعمة الغثيان
|أدرك منذ كلماتها الأولى أنّها لن تتركه بسهولة. دخلت المقهى وهو يجلس وحيدا، كعادته، يطالع رواية “الغثيان” لسارتر ويرفع عينين جامدتين إلى النافذة يتأمّل قطرات المطر تتجمّع وتتحوّل بسرعة، معهودة في العاصمة، إلى برك تجعل المشي في الشارع أشبه بالسباحة. لم تجد طاولة خالية، فقد احتمى بالمقهى عدد كبير من المارة خشية المطر، وبحثا عمّا يجلب الدفء في هذا الطقس الّذي لم يستعدّوا لمواجهته. رأت كرسيّا شاغرا بجواره. قرع مسامعه صوتها المتعب مستأذنا في الجلوس إلى جواره. قرن حاجبيه في ضيق، فهو يكره الجلساء المجهولين وغير المتوقّعين. لكنّه لم يعدم بقيّة من لياقة. شكرته، وجلست وهي تسترسل في الحديث عن الطقس وعن متاعب النقل وهو ينصت إليها متأفّفا. تحفّز للوقوف ومغادرة المكان فشيء من البلل أهون من مشقّة الاستماع إلى ثرثرة هذه الغريبة لكنّها توقّفت لحظة عن الكلام عندما لمحت عنوان الكتاب الّذي يحمله بين يديه. اختفى التعب من صوتها وهي تحدّثه عن ولعها بالأدب الوجودي وعن سارتر وكامو و دي بوفوار. أسند ظهره إلى المقعد في شيء من الذهول. لم يكن يتوقّع أن تكون هذه الشقراء الجميلة من المولعات بمثل هذه المواضيع. زايله تحفّظه وانبرى يطوف وإيّاها ذلك العالم. بعد ساعة أو نحوها، نظرت إلى ساعتها، وغصّ هو بريقه. استأذنته في الانصراف. طلب منها، في صوت واثق أنكره هو نفسه، رقم هاتفها حتّى يتسنّى لهما إكمال النقاش. ابتسمت ابتسامة أنثوية خالصة وهي تمليه عليه. راقبها وهي تغادر المقهى تحثّ الخطى وتكاد تعدو حتّى تدرك الحافلة ثمّ التفت إلى كتابه. وابتسم وهو يقول: “الحمد لله على نعمة الغثيان”.