شظايا…والرائحة ذاتها

بقلم: انتصار المصراتي*

السابعة صباحا

الميترو و صوته الإعتيادي ..   في مكان يصحو على صوته

من هناك .. بين باب الخضراء و محطة الباساج

مبان تصلها الشمس أولا قبل كل العاصمة

من هناك .. تبدأ يومها

أيامها تتشابه ..

تفتح جفنيها ببطء

تبدأ اليوم متعبة .. ككل يوم

تجلس في الفراش طويلا تحدّق في السقف لبرهة

ثم تتسلل أشعة الشمس  ..

تجبرها على النهوض

تتجه إلى الشرفة في تبختر

ملابس النوم تصور جسدها المتناسق

تقف على الشرفة

..

و صوت الميترو يكرر ما يفعله كل يوم

مرآة

..

تتزين على مهل

ككل النساء هنا .. كفاتنة ..

و الاحمر يزيح أثر السنين

جريئة هي .. حالمة

وتحب إرتداء الألوان

و الأحزان أحيانا

..

صوت الميترو ..

إمراة في الستين أو أكثر بقليل تقطع السكة الحديدية ..

تجرّ العالم وراءها ..

قارورة بلاستيكية تفرّ من كيسها .. متجهة إلى مسار الميترو

لعلها سئمت هي الأخرى من البلد .. فضّلت الإنتحار .. دهسا

و هناك .. في أعلى المبنى طقوس الزينة لم تنته بعد ..

و أخيرا .. تحمل حقيبتها

قنينة عطرها الفاخرة ..

ماسكراها

محفظة نقودها

قلم اهداه لها .. حبيب ذهب و لم يعد

و كتاب لأمين معلوف

لم تنس شيئا ..

تتعجّل ..

قبل أن

..

صوت الميترو ..يصل  الباساج

نقطة الإنطلاق البداية و الختام أحيانا ..

نقطة المواعيد في مدينة تعشق اللقاءات .. حتى في أكثر الأوقات وحدة

الجميع يركض هناك .. إلى ما لا وجهة

أول تباشير الضجيج التي يمكن ان تعترضك صباحا

بشر من كل مكان .. من اول العمر .. و من آخره ..

و من طفولة تستيقظ باكرا .. باكرا جدّا

لترتاد مدرسة خاصّة في احد أحياء العاصمة

أصوات تتمازج .. تتكررّ .. إلى ان تصير صمتا يتشابه كل يوم

.صوت الميترو يحدد الوجهة ..

في إتجاه برشلونة

يغادر المحطّة ..

سيعود إليها حتما

 

 

تنزل ببطء

درج تكرهه .. يكبرها سنّا، و يحمل آثار فرنسية ما رقصت على أنغام إيديت بياف و هي تتجه إلى عملها ..المكان مظلم .. تضع يديها في علبة الرسائل .. تنتظر شيئا ما .. لم يصل

 

صوت الميترو .. يتذمر ..

حديقة الباساج تستيقظ من النوم ..

تتثاءب بخضرتها .. و بكمّ العاطلين عن الحلم المقيمين فيها …..و كمّ العابرين .. من العشّاق … أو ما شابه ذلك

الميترو عالق هناك

 

يرنّ المنبّه للمرّة الألف

و أخيرا يستيقظ

ينظر إلى الساعة في اشمئزاز

و يقفز من سريره ..السؤال اليومي : أله أمل في أن يصل ؟

أطفال يتجهون إلى المدرسة يعبرون الزقاق الخلفي ..

أصواتهم ترنيمة صباحية تجلب الحظّ

يفعل على عجل ما يفعله كلّ يوم ..

و يغلق الباب بعنف .. يكاد يسمع صوت جاره العجوز يتذمّر .. ككل يوم

الأزقة مبللة .. يمشي بحذر.

فكّر في ليلة البارحة، ماذا كان ليفعل لو أنها تركته و رحلت .. ماذا كان ليفعل لو تواصل النقاش .. و انسحب لوما وعتابا .. ثم رحيلا

يبرك الماء على الأرض الرطبة .. تنعكس صورته عليها .. يتأمّلها ثم تتراءى صورتها مكان صورته

تنعكس على سطح الماء … يكاد يصل إليه عطرها الفاخر أيضا

 

صوت الميترو ..

بطء أكثر ..

يحاول أن يصل شارع باريس

صباح شتوي مظلم أيضا ..

ينزل رذاذ مطر ..

العاصمة تحت المطر .. غربة و حزن .. و قصص لا تعرفها سوى أرصفة شارع باريس ..

وحدها شهدت كل ذلك ..و وحدنا نشبهها .. تلك المدن العربية التي تعتنق الحزن .

يقف في محطّة ما .. هو اليوم غادرها … و لم يعد يحط الرحال أبدا هناك ..

شارع باريس لا يجوز التوقّف فيه .. لا إقامة للأحلام هناك .. هو فقط للذكرى .. ذكرى عابرة

..

تقطع السكة  ..كعب عالي .. حقيبة فاخرة .. و أنغام تتردد في الفضاء ..تقف عند بائع جرائد .. تقتني جريدتها اليومية  ..فرنكوفونية هي .. و هو يكتب لها شعرا بالعربيّة

لازال يسرع الخطى .. لعلّه يصل ..

قرقعات من أحد المنازل ..

رائحة معتادة .. درع ..

المدينة  العربي .. تفتح جفنيها على مهل ..

تسدل شعرها الحالك ..

و تستيقظ

تتراءى له الشمس

أشعة تسرّح شعرها ..

لا تفتح الجريدة ..

أخبار الوطن الحالك لا تقرأ وقوفا ..

من يدري .. كيف يكون أثر الصدمة .. أو الخيبة إن شئتم

..تواصل طريقها ..الباعة صباحا .. كراتينهم .. شجاراتهم اليومية المملة .. تصنع فرحهم بيوم جديد

لا يمكن أن يبدأ إلا كذلك ..

مقهاها المعتاد .. يلوح من وراء صف السيارات ..

نفس الوجوه الصباحية .. و أخرى تقف هنا بحثا عن شيء ما .. و قد تجد نفسها ..

على غير العادة يضعون موسيقى صباحا ..

هو بالاحرى رنين .. ستنزعج الموسيقى إن سميناه كذلك ..

تطلب القهوة ذاتها ..  لتقرأ عناوين الوطن ذاتها بأسلوب مختلف كل يوم

 

الميترو بلا صوت .. وصل شارعه .. يصمت إجلالا ..

شارع الحبيب بورقيبة ..

من هناك .. يمكنك أن ترى كل تونس .. قد تصل الرؤية الرديف و بن قردان .. و بعضا مما تركته فرنسا ..

شارع يحمل كل الحزن ..

يحج له المتعبون من كل مكان .. يضعون أحزانهم قربانا .. و يواصلون المسير ..

يمرون دون توقف .. لا إقامة على هامش التاريخ ..

فالتاريخ أيضا مرة من هناك .. و أسفا لم يتوقف ..

شارع للصراخ .. في صمت .. للنواح و للفجيعة ..

يفتح ذراعيه للوحيدين .. و للعشاق .

لعشاق صالات السينما المهجورة .. و للمقيمين بأروقة ” الكتاب ” ..

يسرع الميترو .. عليه أن يوصلهم ..

و يسرع هو .. بين الأزقة .. يريد أن يشرب قهوة مرّة .. كهذا الحال ..

ينظر إلى ساعته .. و يطرد الفكرة

تتتالى الأزقة .. تعترضه فتاة شقراء .. تغلق باب عربي أزرق .. بعنف .. تحمل كاميرا بيدها و تبتسم له .. كمن يقول صباح الخير بلغته ..

يمتعض ..

صوت باطني : إحتلال

لم تعد تسمع صوت الميترو ..

ابتعد ..

و هذا الشيء الصاخب صباحا .. يطغى على المكان ..

تترشف قهوتها .. حلوة جدا . لا شيء حلو سوى القهوة .. حلاوة ساخرة

تقلّب أوجاع الوطن .. بلغة تقمّصته طويلا ..

نزيف من الحبر .. و لا معاني تذكر ..

خبّأت الجريدة .. و أخذت تحملق في العابرين ..

هي باتت تخجل من ان تقول للوطن : تماسك !  .. ففضلت الهروب

 metro2

 

الميترو يتمّ المهمة ..

ساحة برشلونة .. توأم الباساج .. من أمّ اخرى ..

الجميع يركض هنا أيضا .. بلا وجهة

 

 

وجهته واضحة .. ككل صباح .. الممرات الخلفية للمدينة العربي ..

بعيدا عن النساء المتشابهات اللاتي تتوارثن اللهجة ذاتها و تتباهين بها ..

و عن الحلي الباهظ الثمن .. يعرض كذاكرة في واجهة لمحلات الأحياء الرّاقية ..

الأسواق ؟ لا ..  سيعبرها في النص القادم ..

من الحفصية يسير ..

سوق ملوّنة بألوان الطيف .. و ثقافات الشعوب .. و ملابسها

بورصة صباحية ..

و فتاتان في ربيع العمر .. تسرعان الخطى نحو أحد الباعة قبل ن تأتي أخرى و تسرق منهما فستانا .. كان سيجعل اليوم اجمل

هناك يغدو  ” الانتظار حالة عبوديّة ”  .. و حالة وهن مزمن ..

لن تسأل : هل سيأتي ؟

سنطرح السؤال عنها .. و نجيب : ربّما ..

أوراق بيضاء .. قلم .. و قهوة.. العاصمة صباحا ..أليست هذه أسبابا كافية للكتابة ؟

بلى .. تجيب ..

و تقتل بياض الورقة

له ؟ لا .. هو نص لها ..هي وعدته ذات مساء .. هو أغلى من ان تكتبه ..

 

يكمل الميترو رحلة أولى .. ينزل مرتاديه الأوائل ..

و يعود ليكررّ حلقته اليومية ..هو لا يملّ و لا يضجر .. هم فقط يملّون منه ..

و يتذمرون

طموحاتهم أكبر .. سيارة ستفي بالغرض .

 

 

منبهات سيارات .. يقطع الشارع ..

الحبيب ثامر .. و ملك آخر للحبيب بورقيبة ..

معهد هذه المرة

اكتظاظ .. تلاميذ يمارسون روتينهم اليومي .. و يحلمون أحلام يقظة

يبتسم

ضوضاهم تنسيه لحنا كان يردّده .. كانوا قد أضافوه على قصيدة .. فصار نشازا ..

صوت الميترو مجددا ..

يسبقه ..

يسرع لعلّه يصل .. و لو متأخرا

تبحث عن النادل ..

القهوة اليوم أغلى .. كل شيء في هذا الوطن بات أغلى .. عدا البشر

يصل الباساج منهكا ..

بفكّر أحيانا في أن يترك المدينة العربي إلى شقة فرنسية في الجوار .. تستيقظ كل صباح على صوت الميترو .. و لكنه يدرك جيدا أنه لا يجرأ على ان يترك حبيبته في منتصف الطريق .. و يرحل

تزيد من مكياجها ، تعدّل تسريحتها ، و ترش عطرها الفاخر مجدّدا

تغادر المقهى ..

تقف على الرصيف ..

و تلوّح بيدها ..

في الضفة الأخرى من الشارع .. يقف ثم يعبر

..سيارة أجرة .. ” محطّة المنصف باي .. من فضلك ” .. و تغذي رائحة العطر المكان

يصعد الميترو رقم 2 .. العذاب اليومي الموالي .. نحو العمل

* فاز هذا النص بالجائزة الأولى في ملتقى تونس الفتاة للأديبات الناشئات “يراع” المنتظم يوم 10 جانفي 2015 بالنادي الثقافي الطاهر الحدّاد

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights