كوريغرافيا
|بقلم: عائشة المؤدب
هيّأ النّادل لهما مكانهما المعتاد، ركنا قصيّا تحتلّهُ طاولةٌ متأنّقةٌ، نثر حولها عتْمَةً خفيفةً تزيّنها نافذةٌ مواربةٌ، تُطلّ منها الحديقة الخلفيّة متأهّبَةً كأنّما تتلصّصُ على الحدث الوشيك. فكّر النادل: “إنّهما آتيتان…مكانهما العليّ جاهز.”
تصل إحداهما، تَشدُّ على شفتيْها ابتسامةً شاقّةً، فستانها الغرير ينسجم مع تموّجات الهواء حوله فيستحيل جناح فراشة مرفرفة، كعب حذائها الرّفيعُ يدقّ مسامير صاخبة غير عابئ بإيقاع الموسيقى الهادئ المستقرّ في المكان وهو يأخذ في التّلاشي مع كلّ خطوة تقرّبها من وجهتها، قبل أن تنتبه إلى أناقة الطّاولة تتهاوى على الكرسيّ، تتنهّد أكسسواراتها المتدلّية من الجيد ومن المعصمين مشقشقة، وتظلّ الخواتم المتشبّثة بالأصابع الرّقيقة صامدة بينما تنتقل اليد بين خصلات الشّعر المنسدل تروّضها، ثمّ تثبّت الحقيبةَ على مقربةٍ وتشرع في البعثرة: غابة أوراق محبّرة بخطّ يكابد الكلمات النّاشزة ويصفّفها بجهد، مفكّرة منتفخة كبطن حامل، قلم هرم يسعل بين الحين والآخر، علبة مكياج، تعيدها إلى الحقيبة حين تدرك أنّها لن تحتاج إليها.
“قهوتان وقارورةُ ماء” سرّح النّادل ابتسامته وهو يرصف الطّلبات المعتادة على طبق حين وصلت الأخرى، انتبه إلى حزنها تجرّه خلفها كسلسلة خفيّة تلتفّ حول قدميها الصّامتتين وتصعد ممتطية الجينز القديم حتّى تصل عبر الجذع النّحيل إلى الكتفين فتستقرّ هناك وتصنع انحناءة خفيفة بدأت تكبر. شعرها العشبيّ القصير ينحسر حول الوجه الجادّ والتّقاسيم المتعبة، يحتضنها الكرسيّ متلهفّا وتتلقّفها الطّاولة لتسندها فتطلق من رئتيها زفرة. لم يكن في يدها غير رعشة.
يُفرغ النّادل حمولة طبقه على الطاولة ويضع ابتسامته أمامهما كوردة حمراء عابقة ثمّ يبتعد، يستمرّ في عمله لكنّ نظراته لا تغفل.
رشفة من الفنجان، رشفتان. ثم تنطلق الكوريغرافيا: بخطوات ثنائيّة متزامنة وإيقاع بطيء تحدّثتا عن ذئب الوقت وسيف العيش وسجن البيت وموت الرّوح وصحوة لا يفهمها العالم السّفليّ حيث تركتا جسديهما تنهشهما عدميّة المعنى. تنفلت إحداهما فتقفز على الكلمات كقطّ بريّ وتتحدّث عن لوثةٍ تتلبّسُ بأفكارِها بغتةً فتحبَلُ أوراقُها وتتناسل منها شخوص من ورق وحلم تلتفّ حولها كالبتلات تنغلق وتنفرج فتصعد حيواتها كخيط دخان، بحركة مخمليّة تمسك الأخرى بيدها وتسحبها إلى أفكارها تقرئها دهشتها وتلفّ لفّة حول نفسها ثمّ تبتعد فاردة ذراعيها كشعاع شمس، تحلّق حولها ثمّ تنكفئ عليها وتهمس أنّها باتت تنصب كمائن للّغة فتراود المجاز عن نفسه وتتبرّج للمعنى غواية، تكشف لها عن سرّ قصيدها الجديد المخبّئ تحت وسادتها تستحلب منه نشوة باذخة. تحتدم الحركات مع احتدام الكلمات وتتسارع خطوات الرّقص، بقي النّادل يراقبُهما وقد استحالتَا نجمتين، وثبتَا عبرَ النّافذةِ المواربَةِ إلى الحديقةِ الخلفيَّةِ، إحداهما طارتْ، ولحقت بها الأخرى فانتشرت الكلماتُ أسرابًا وطافت الأوراقُ تجتاحُ سمَاءَ الحديقةِ، إنّها لحظة الخلق ستنهمران بعدها كزخّاتِ يراعٍ تضيئهُمَا روحًا واحِدَةً. عند الحركة الأخيرة عادت الأولى إلى مقعدها تترشّف القهوة، جلست الأخرى أيضا تملأ كأسها ماء، أدرك النّادل أنّه سينظّف الطّاولة عمّا قليل، تركت إحداهما المكان عابقا بغبطتها مضيئا بوهج غزاها فشعّ منها الفرح فامتشق قوامها، بينما تلملم الأخرى مفكّرتها الولود وقلمها الفتيّ وأوراقها اليانعة وقد تآلفت مع زحمة أفكارها المترعة. تترك المكان شاغرا فيعيده النّادل مرة أخرى جزءا من العالم السّفليّ إلى حين تعودان فيهيّئه لهما من جديد مكانهما العليّ.
هكذاهي نصوص الاديبة عائشة المؤدب تصنع من المألوف سلما إلى المتخيل الرائع فتثير فينا الرغبة والسمو إلى مناخات اخرى فيها الروعة والجمال