لولا نعمة الرحيل

إن لم نكن أولادا سعداء يوما..فلأنهم أحبونا جدا..فخافوا علينا جدا..

..فلم نر من الحياة سوى واجهتها…

..ذنبهم هو أنهم أحبونا بطريقة خاطئة..فرحلنا عنهم..

.. ذنبنا.. هو أننا أردنا أن نعيش تجربتنا في الحياة..

أما ولم يعد لديك ما تخسره..فسوف تترك المنزل نهائيا هذه المرة..سوف ترحل .. أنت في كل الحالات ضائع ..مشتت..مرتبك الخطوات..لا داعي إذن لتبقى وقتا أطول هاهنا تسمع الإهانات و الويلات وتتحمل صراخ والديك بين الحين والحين ولغطهم ووعيدهم و سخطهم وتصرفات كثيرة تنهش قلبك ولحمك وتجرحك حتى أعمق نقطة فيك…فوضوي ..متثاقل..متواكل..متعجرف ..كسول..تنام كثيرا..تعيش خارج التاريخ وخارج الكينونة..عصبي..مزاجي..مهتز الشخصية..ضعيف الإحساس..غبي.. أحمق ..لا تحترم المواعيد..خارج عن القانون..لا مبالي..سلبي ..لا تفعل شيئا مفيدا للعالم..لا تصلح لشيء.. والأهم من كل هذا ..هو أنك فاشل..فاااشل ..

في كل مرة ..تخرج مائجا كالدخان..تغادر البيت كعاصفة..تهيم على وجهك الليل كله ..تبكي  كثيرا وبعيدا.. حتى لا تصطاد صوتك الباكي أشباح الليل وتشي بك اليهم ..تبكي بحرقة على حافة البحر و تئن كالثكلى ..وتنتفخ مقلتاك و يشحب وجهك و يتصدع رأسك من الألم فتلملم أشلاء روحك وتعود منكسرا الى غرفتك …لم يفهموك يوما ..دمروك و كسروا كل الأشياء الجميلة داخلك..كم كسروك.. خذلوك عندما كنت بحاجة ماسة لمن يرفع معنوياتك ويعزز ثقتك في نفسك وقدراتك..كم خذلوك… أحبطوك على صغر سنك و لجموا لسانك حتى ما عدت قادرا على إبداء رأي واحد على الملأ..كم أحبطوك .. أرهبوك منهم ومن نفسك ومن العالم بأسره.. أصبحت كائنا هشا خائفا على الدوام ..تخاف من شبحك وظلك ..تخاف من صوتك إن تكلمت في الظلمة وتلتفت وراءك لتتأكد أنك لم تكن مراقبا وأنه لا أحد يتعقب خيبتك …تفضل الإنزواء والسير في الأزقة المتوارية ..كالمجرم تختفي..كالمصاب بمرض معد تتوارى ..كالعاري ..تمشي في الطريق العام..نعتوك بكل الصفات المشينة معتقدين أنهم يعيدون إليك رشدك و يحثونك على الإستفاقة..كل ما كانوا يفعلون ..هو إذلالك .. إذلالك فحسب..يحبونك ما في ذلك من شك..فأنت ابنهم في نهاية الامر..لكنهم أحبوك بطريقة خاطئة جدا و خائبة جدا …كان عليهم أن يفهموا أنك كنت بكل بساطة..متعبا .. أنت فعلا متعب..وتحتاج لفترة طويلة من الراحة لتراجع نفسك وتعيد حسابات سنوات من العمل المضني.. في سبيل ماذا؟؟..في سبيل بلاد لا تعترف بالجميل لأحد..وفي سبيل حبيبة تركتك عند أول فرصة صادفتها لشاب مترف ..كنت تعيش حالة اكتئاب مزمن ..كنت مريضا لكنهم لم يتفطنوا لمرضك النفسي و عمقوا من جراحك …كم جرحوك…

كيف تبقى بعد كل هذا ؟؟..ستذبل كوردة لو بقيت..ستنهار كبناية قديمة ..ستغرب كشمس…ليس أشد عليك من أن تتصور المستقبل لعنة من الذكرى .. إنما الجراح التى تمضي لا تنسى..نحن نمثل النسيان فقط..نعيش على الوهم والغش والأكاذيب والخدع..ستمضي اذا ولن تعود ثانية..لأنك لن تغفر ابدا..لن تغفر مادمت لن تنسى الإهانة ..فكيف تموت وتبقى حيا تترك الساعات تهمس اليك .. أنا التضليل والخدعة..لقد زورت لك الدنيا يا أحمق…

سترحل نهائيا ..رحل كثيرون قبلك فماذا تخشى ؟؟..إفعل ما فعله جارك العاشق سيء الحظ العام الماضي ..رحل نهائيا هو الاخر ولم يلتفت بعد ذلك لأي من دعوات الرابطة الأسرية الكاذبة .. إن الحرية هي الخيار الأوحد في هذا الكون..لن يخسر شيئا مميزا إذا رحل..لن يدمر شيئا مهما ..لن يصير برحيله العدم وجودا والوجود عدما..لن يخسر شيئا ..بل سيربح نفسه…يعتبر ابنة عمه بمثابة أخته .. أما حبيبته فهي فتاة متحررة ..مثقفة واعية جمعته بها مدارج الكلية وصفوف النضال الطلابي المجيد ..لن يتركها من أجل عادات بالية …كم يذكر ذلك اليوم وكم يحتقر لذكراه ثقافة أبناء جهته وتفكيرهم الرجعي ..افرح يا سعد الدين لقد خرجت للتو الداية من غرفة نسرين ابنة عمك وقد أكدت بأنها عذراء..ولن تكون إلا من نصيبك إن شاءالله.. لقد تجرأت عجوز فاجرة بجهلها مفتخرة بعهرها على لمس العضو الحميم للفتاة كأنها تتفحص سلعة أو بقرة ثم خرجت تهلل وتزغرد…كانت الداية فرحة من أجله ..كان الجميع فرحون من أجله معتقدين أنهم أصابوا الحقيقة..بينما كان هو في لحظة خبط أو جنون..لم تكن لديه فرصة واحدة للتعقل..كان لا بد أن يعبر عن احتجاجه وتوتره وسخطه ..كان يمكن أن يحرق المكان بمن فيه…كان لا بد من ردة فعل تعفيه من  ارتكاب جريمة نكراء..لم يكن في وسعه سوى الرحيل على أمل أن يتمكن من تقيء ألم الذكرى ودمامة الموقف..وما علق في أحشائه من مرارة و سم و يأس..خرج مترنحا ولم يحمل معه سوى حقيبة سفر واحدة… اعتقدوا بسبب الحقيبة اليتيمة أنه سيعود قريبا..وحدها الداية المجنونة… أخذت تركض خلفه وتصيح.. أغيثوها به…إنه لن يشفى من أوهامه..إنه لن يكتفي بحياة كحياة آبائه…

كلهم رحلوا..دفنوا مأساتهم على عتبات بيوتهم ورحلوا ..فلترحل أنت ايضا ..لا داعي للانتظار..الانتظار مضيعة للوقت ..في جميع الأحوال لن تكون أشجع من صديقك المراهق الذي ترك هو الاخر منزله لأن أباه نغص عليه عيشته بسبب المصروف .. أخبره بثقة أنه يتعمد التقشف حتى  لا يجد له من خيار سوى الإنكباب  على دراسته و حتى لا يفكر إلا في النجاح بتميز ..ياله من منطق أجوف في زمن أصبحنا نتنفس فيه  بمقابل… إنه منطق أب حريص..لكنه حريص عن جهل..لم يعلم أنه إذ حرم ابنه من المصروف فقد حرمه من أهم شيء يمكن أن يستمر به أمله في الحياة..لقد حرمه من أن يكون كائنا اجتماعيا ..من أن تكون له علاقات ..رفاق ..زملاء ..حرمه من أن يكون إنسانا ..وأهم من هذا كله..حرمه من الحب..فمن يزعم أن الحب في زمان كزماننا لا يحتاج إلى تمويل؟؟ فمن لا مال بجيبه لا حب في قلبه أو ربما يكون في قلبه حطام حب ..بقايا حب…فلنكن واقعيين …الحب يحتاج الى مكالمات هاتفية .. إلى هدايا أعياد ميلاد و هدايا اللقاء الأول وهدايا العودة بعد قطيعة وجيزة ..الحب يحتاج لركن في مقهى و لأكواب من المثلجات و ووو… كلها أحداث ضرورية في كل قصة حب تصنع ما يشبه الذاكرة العشقية..هي أحداث تفتعل أو تأتي تلقائيا …لا يمكن تجنبها..لا سبيل لتجاهلها..بل إن تجاوز أيا من هاته التفاصيل يقوم مقام الحكم بالفراق النهائي على أساس الإهمال واللامبالاة والتقشف …لا مكان في حياتك لقصص واهية ومغامرات صبيانية..يصرخ الأب الحريص..عن جهل دائما ..لابد أن تكرس وقتك برمته للدراسة ..هي الطريق الوحيد للثبات ..هي الطريق الوحيد لإثبات وجودك و ما دون ذلك عبث و تيه وشرود..فاحذر الحب في سنك انه الشيطان الأعظم…

إن الحرص الذي ينشأ عن جهل أخطر بكثير من اللامبالاة لأنه يهدم شخصية الفرد كليا..لا يترك لها فرصة واحدة لترى النور..لتتأجج حياة..لا تترك للشخص فرصة ليختار..فاللامبالاة على الأقل تدفع الشخص لأن يتحمل مسؤولية قراراته التي يختارها عن ارادة وقناعة ..كم حرصت والدته على تفتيش خزانته و رفوف مكتبه رغبة منها في إدانته بالتستر عن رسالة حب أو مذكرة غرامية أو صورة أنثوية أو عطر انثوي أو أحمر شفاه أو حتى شعرة مشبوهة.. كل شيء في المنزل كان يشعره بأنه مشتبه به..وأنه يخضع لرقابة مستمرة..وحراسة مشددة..كل شيء يشعره بأنه مدان…

من أجل ماذا يعاني كل هذا؟؟؟ هل اختار أن يكون في الدنيا؟؟ لماذا يكون عليه أن يسدد ضريبة نفس رديء مضن لم يطلبه يوما ؟؟..لماذا يدفع ثمن ليلة حميمة عابرة تناسى فيها والداه ما سيترتب عليها من التزامات مادية ومعنوية؟؟…هي سنة الحياة يقول بعضكم…لا سنة الحياة ولا بطيخ.. أرد عليهم في لحظة كتابة دامية يختلط فيها اللاوعي بالجنون… أمقت الالتواء.. وأمقت التصرفات اللامسؤولة ..ليس على الفقراء المعدمين أن ينجبوا ..وليس على الأميين أن ينجبوا وليس على المجانين أن ينجبوا..وليس على الأغبياء والحمقى أن ينجبوا..وليس على الدميمين أن ينجبوا …شكرا على تكفيري.. أما بعد.. أليس إنجاب كائن ليتعذب بمثابة جريمة نكراء؟؟ أليس ظلما يعكس فهما خاطئا للحق في الحياة ؟؟  لم يكون على الأطفال دائما أن يطهروا نجاسة الاباء و أن يصححوا أخطاءهم وأن يجملوا ما اقترفت أيديهم من جرائم وأن يكملوا ما بدؤوه وأن يتحملوا فضلا عن ذلك الخصاصة ويعيشون حياتهم برمتها يسعون لإنقاذ أنفسهم من الفقر فإذا هم يغوصون فيه إلى الرقاب أبدا و يورثونه لذريتهم من بعدهم و تتواصل الحلقة المفرغة نحو اللامعنى؟؟..لماذا يكون على الأطفال أن يحملوا بشاعة والديهم وشما على وجوههم يغلق أمامهم كل الأبواب ويتركهم عرضة للأحكام المسبقة والشتائم في مجتمع مفتون بالمظاهر .. يعبد الجمال ويدين القبح ..لماذا يكون علينا أن نتحمل جنونكم وغفلتكم وحمقكم و ثقل تفكيركم وعدم تفهمكم لمشاعرنا و أفكارنا وأحلامنا؟؟ ..هي حياتنا التي لم نختر القدوم اليها فاتركوا لنا على الأقل حق اختيار طريقة عيشها..لماذا تصرون على أن نحمل خزعبلاتكم على ظهورنا وأن نجوب بها الكرة الأرضية  ؟؟..  تحبوننا ..نعم..لكن طريقتكم في حبنا لا تعجبنا..لا ترضينا..لا تطورنا بل تهدمنا وتكسرنا..لا تترك لنا سوى خيار الرحيل…تنجبوننا لتكبلونا متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟؟..تنجبوننا لتملوا علينا أفكاركم و أحلامكم ؟؟ ترون فينا مطية تنقلكم الى حياة ثانية تعيشونها من خلالنا ؟؟ أليس في ذلك أنانية خالصة؟؟..تربوننا لتربوا فينا ما تفتقدونه في أنفسكم ولننجح في ميادين أخفقتم فيها ؟..تختارون لنا الملابس و الأغاني والكتب والأفلام وتنقلون الينا عقدكم عبر الكريات الحمراء فتعيش بنا ومعنا ونموت بسببها في حياتنا ألف مرة ؟؟..

صمت كثيرا وبكى  منزويا في أحد الأركان كمن طعن في كبريائه .. أحس بأنه معدم فعلا ..لا مال في جيبه ليحب..ولا أمل في قلبه ليعيش..لا أمل له في شيء..هول عليه والده المستقبل لدرجة انه اصيب بالخوف والاحباط من ابسط الاشياء..لم يعد قادرا على اتخاذ قرار واحد.. أحس بأنه معدم على جميع الأصعدة ..شعر بأنه لا يعني للحياة شيئا..بأنه  دخيل أصلا على الدنيا ..كان العالم يبدو له غارقا في الأسود…لم يعلم حتى يوم رحيله أنه وحده قادر عى تلوين أيامه..وحده قادر على أن يضيف لونا جديدا لألوان قوس قزح..وحده قادر على أن ينظر الى السماء الغارقة في السحب ويرسم بقلبه في ركن منها شمسا دافئة تنير له  دربه ..

فكرت ذات يوم في الرحيل..لكنني سرعان ما تذكرت كم كنت أنثى..وكم أن الإناث في بلادي لا يملكن خيار الرحيل.. أنوثتهن تحول دون اختيار وجهة أخرى ..الإناث في بلادي عبارة عن مصائب متحركة أو قنابل موقوتة..وجودهم في الكون كارثة حقيقية..بركان خامد يهدد بالاستفاقة في أية لحظة..كنت أتمنى أن أغادر..هكذا بكل حرية ..بدون سابق إنذار..بدون أدنى تخطيط..بدون أن يكون علي إعلام كائن من كان..بدون أن يكون في عقلي خطة معينة أو طريق بذاته أو وجهة محددة..كم تمنيت أن أحمل فقط حقيبة ولا أفعل شيئا ..سوى السير…

كنت يسارية بمعنى أني أستعمل يدي اليسرى في كل شيء ..لكن أحدا لم يكتشف ذلك قبل مراهقتي ..بحيث كنت أنتظر الصفعة كلما قطعت الطريق دون أن أحترم قاعدة الالتفات يمنة ثم يسرة..كنت  أقلب القاعدة..وكانوا يعتقدون أنني أتعمد ذلك لأثير غضبهم…سألت والدتي ذات مرة ذلك السؤال المشهور..لو خيرت وأنت في عرض البحر أن تنقذي غريقا من العائلة فمن ستختارين ؟؟؟ صمتت..ككل الأمهات..حتى لا تجرح المشاعر والأحاسيس وحتى لا تدمر ما تبقى من الرابط الأسري الهش …إن الصمت في حالة كهذه  جواب منطقي حكيم لكنه..فاضح جدا للحقيقة ..فضلا عن كونه غير مقنع ..قلت مازحة ..ستنقذين أختي أليس كذلك؟؟…ردت مازحة أيضا ..لكن اللاوعي فيها كان على غاية من الجدية…طبعا سأنقذها هي ..لماذا؟؟…لأنها تطيعني في كل شيء ..وتتبع ارشاداتي وتطبقها حرفيا ولا تسألني ولا تسائلني ولا ترفض لي طلبا ..تؤيدني تماما و تتجنب مناقشتي في كل شيء كحالتك…تراني مثلا أعلى و أما معصومة من الخطا ووو

 … إنه ذلك التوق للاستعباد الذي نعتقد ونحن نمارسه أننا فعلا اسياد معصومون من الخطأ و أن من يسلم قدره إلينا لا بد أن يحظى بالافضلية في كل شيء.. إنها العبودية في شكلها الأسري المحترم الأنيق..مثال حي للتبعية الفكرية والجسدية والمصيرية … ترهات..

كنت أنثى..عيبي الأكبر هو أنني أنثى..هذه الصفة تحرمني من نعمة الرحيل..الى أين أذهب بجسدي الأنثوي المثير للفتنة؟..ان الذئاب تتربص به في كل ركن ..وإن غابت الذئاب فلن تنقرض الكلاب ..نصف المجتمع حيوانات ضارية مفترسة والنصف الاخر حيوانات ضعيفة مفترسة فأين أذهب بك يا جسدي ؟؟؟

لن تطأ قدمك مكانا يذكر..سيبقى الرحيل أمنية ..ستلزمين مكانك أيتها الأنثى ..في حلقك غصة أزلية..مكان القلب حجر ..تحت الجفن دمعة يابسة..وفي اليد تذكرة للمسافر الجديد..

كلهم رحلوا ..وكنت أنا من أقطع لهم تذاكر الرحيل..كانوا يقفون أمامي في الطابور بوجوه شاحبة وقلوب دامية ..وحدها آياديهم تمسك الحقييبة باستماتة ورغبة جامحة في ولادة الحياة من رحم الموت ..وحدها أيديهم تعبر عن أملهم في غد أفضل..غد ينتظرهم على مهل وبصبر..غد متفهم..يحتوي آلامهم وآمالهم ..لم يكن بجيوبهم مال..لم يكن في خيالهم وجهة محددة ..لم يكن لديهم شيء يذكر..لكنهم كانوا في تلك اللحظة بالذات.. أحرارا..

أصبحت أقرأ قصصهم ..هم الراحلون..من خلال ملامحهم ..وأسمع أصوات قلوبهم واضحة…

كانوا يجلسون دائما محاذين للنافذة..ومع ذلك..كانوا أكثر من يجهلون الطريق

Please follow and like us:
5 Comments

اترك رد

Verified by MonsterInsights