بيني لاين… شعرية اليومي لدى البيتلز
|
بقلم: حمزة عمر
أصدر البيتلز أغنية “بيني لاينPenny Lane “(شارع بيني) في شهر فيفري من سنة 1967، في نفس الشريط الذي احتوى في الجهة الأخرى أغنية ” حقول الفراولة إلى الأبد”. كلتا الأغنيتين من تأليف الثنائي جون لينون وبول مكارتني، وإن كانت مساهمة الأخير أكبر في بيني لاين. كان هذا الشريط أوّل عمل موسيقي جديد للبيتلز بعد قرارهم التوقّف عن إحياء حفلات عامة في سنة 1966، عندما اعتبروا أنّ صخب المشاهدين لم يعد يمكّنهم من تقديم موسيقى جيّدة. لذلك كان هناك ترقّب كبير لهذا العمل، ولم تخب الآمال…
ليس “بيني لاين” غير شارع في الضاحية الجنوبية لليفربول، لم تكن له من ميزة سوى كونه نهاية خطّ عدد من وسائل النقل في هذه المدينة. إلا أنّه كان، وهذا الأهمّ، من الأماكن التي تسكّع في أرجائها بول مكارتني وجون لينون وجورج هاريسون زمان صباهم. من هذا الحنين إلى زمن الطفولة انبثقت هذه اللوحة الموسيقية.
ترسم الأغنية ملامح متناثرة لشخصيات متعدّدة تتعايش في هذا الشاعر: حلّاق، مصرفي، أطفال، ممرضة، رجل إطفاء. ليس لأيّ من هذه الشخصيات خصائص تجعل منها خارجة عن المألوف، سوى بعض التفاصيل الغريبة التي تتمسّك بها: الحلّاق يحتفظ بصور كلّ الرؤوس التي حلقها، المصرفي لا يرتدي معطفا رغم المطر الغزير، الممرّضة التي تبيع زهور الخشخاش في الترام، الإطفائي الذي يستعمل ساعة رملية ويحتفظ بصورة الملكة…
هذه التفاصيل الغريبة هي التي تجعل تجاوز اليومي ممكنا، فهي تمنح الشخصيات طابعا خاصا ربما يكون له دوره في شعورهم بقيمتهم الذاتية. يبدو ذلك بشكل جليّ في حالة الممرّضة التي “تشعر أنّها في مسرحية”. إيقاعيا، تؤكدّ ذلك عبارة “غريب جدّا” التي تشكّل شبه لازمة، بما أننا نجدها في موضعين مختلفين مباشرة قبل اللازمة.
هذه الغرابة نجدها في خصوص الزمن الّذي ترصد فيه الأغنية هذه اللوحة. نجد قرائن متناقضة: في حين تحيل “زرقة سماء الضواحي” إلى فصل الصيف، يشير مشهد الإطفائي والمطر يبلّله بوضوح إلى فصل الشتاء. رأى البعض في ذلك جموحا لخيال المؤلّفين تحت ظلّ عقاقير الهلوسة، وقد كان البيتلز فعلا وقتها في مرحلتهم “البسيكيليدية”. غير أنّه يبدو من الخطأ القول أنّ الزمن المقصود هو واحد وحقيقيّ. لا يتعلّق الأمر بالتقاط صورة للشارع في لحظة زمنية محدّدة بدقّة. يسترجع مكارتني ولينون ذكرياتهما الطفولية عن المكان، فتتداعى الصور في غير انتظام. لا معنى للزمن هنا غير ذاك الذي يكتسبه في الحلم.
وكما يتعدّد الزمن، يتعدّد المكان كذلك. صحيح أنّ الحيّز المكاني العام ضيّق بطبعه (شارع بيني)، لكن داخله تتعدّد الفضاءات: الزاوية، المفترق، دكّان الحلّاق… ولكلّ من هذه الفضاءات شخصياته وطابعه الخاص. فمحدوديّة الحيّز المكاني لا تتنافى مع ثرائه.
تبدو الصورة متشظية إلى حدّ ما: كل شخصية تقوم بعمل ما في مكان وزمان مختلفين. غير أنّ المقطع الأخير يجعل هذه العناصر تأتلف بشكل عجيب وغير متوقّع، إذ تلتقي أغلب الشخصيات (الحلّاق والإطفائي والمصرفي) في مكان واحد (دكّان الحلّاق) وفي زمن واحد (تحت المطر)، فيما يشبه نهاية لقصّة ليس لها أحداث بارزة. هذا الائتلاف غير مستغرب. منذ المقطع الأوّل، يُقدّم شارع بيني باعتباره مكانا فيه يتوقّف الجميع ليسلّموا على بعضهم البعض. يبعث هذا الشعور بالألفة دفئا جديرا بمكان يُعتبر، على نحو ما، وطنا.
يخلق البيتلز من تفاصيل متناثرة في مكان عادي ما يُشبه الملحمة. لا يعود اليومي ذلك الرتيب المتكرّر أمام دهشة الفنّان، بل يضحي مادة لإعادة الخلق والتركيب وفق ما يمليه شعوره الخاص جدّا تجاهه. نلمح هنا بصمة بول مكارتني الأقرب إلى الواقعية في مقابل ميول جون لينون التجريبية في أغنية الشريط الأخرى “حقول الفراولة إلى الأبد”، التي كان منطلقها كذلك أحد أمكنة الطفولة، وكلتا الأغنيتين كانتا من العناصر التي بنى بها البيتلز ميثولوجيا لمدينة ليفربول، على حد تعبير الشاعر روجر ماكغاف.
صدر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد الرابع، جوان 2021، ص.14.
لتحميل كامل العدد : http://tiny.cc/hourouf4