حياتي

حياتي…؟

تعوّدتُ حياتي الجديدة مع زوجي الطّبيب المحترم و المحبّ المتفاني. هو زوج مثاليّ يصل اللّيل بالنّهار يكدّ و يشقى من اجل إسعادي و أطفالنا الثلاثة.

شددنا العزم منذ أيّام نستعد لقضاء عطلتنا الصّيفية السّنوية. أُعدُّ أنا ما يلزم من حقائب السّفر في حين يتكفّل زوجي العزيز بتوفير كلّ مقتضيات العطلة الباهظة الثّمن. يتعاقد مع صاحب المنزل: ذاتُ المنزل الواقع على ذاتِ الشّاطئ و المحاذي لذاتِ الفندق. منزل تعوّدنا أن نكتريه كل صائفة في نفس اليوم
و الشهر. لا قبلَ و لا بعد.

ما إن وصلنا مدينة سوسة المحبّبة إلى قلبي حتى أحسست انشراحا في صدري و ارتياحا… كأنما روح جديدة تتملّكني كلّما وطأت قدماي عتبات تلك المدينة. روح لا بدّ لها أن تكون بَحْريّة مثل نسائم سوسة…روح لست أدري من أين تأتيني و لا من أين تودّعني كلما هممنا بمغادرة المدينة مع نهاية العطلة.

كنتُ على يقين أن شأني مع الأقدار لا يختلف عن شأن الكثيرين منكم…دائما ما تسخر منّي الأقدارُ…تعبث بي يمنة و يسرة كأنما أنا زورق في مهبّ الريح و الريح عندي هي القدر… غير أنني لم أكن أتوقع أو أتخيل أن تعبث الأقدار بحياتي كل هذا العبث فكلّما هممتُ بالاستقرار أو توهّمتُ أنّني بدأت أرسو على برّ الأمان إلاّ و عمدَت الأقدار إلى هدم قصوري الرّملية…أبني لأعوام و أكدّ فتهدم هي في طرفة عين.

لم يكن يحقّ لك أن تظهر في حياتي من جديد. لم يكن من الجائز و لا من المشروع فقد تعوّدتُ حياتي الجديدة مع زوجي و أبنائي.
لم يكن يحقّ للقدر أن يضعك في طريقي مرة أخرى…مرة أخرى بعد عشرين عاما من الغياب و الفراق.

تعوّدتُ فراقك و تعوّدتُ غيابكَ و تعوّدت أن أنساك حتى خلتُني نسيتك حقا.
عبثت بنا الأقدار منذ عشرين عاما و ها هي ذي تعود اليوم لتعبث بنا من جديد. عَبثتْ بنا منذ عشرين سنةَ حين قرّرتَ التخلي عني مرضاةَ لأمك التي تَخيّرتْ لك زوجة غيري.
زوجة لم يربطك بها ما ربطني بك طوال الخمس سنوات التي قضيناها معا.
انهار العالم من حولي يوم هجرتني و ها أنت تعود اليوم لينهار عالمي من جديد. عالمي الذي توهّمتُ أنّني أخرجتك منه و إلى الأبد.

لم يكن يحقّ لي و لم يكن من المشروع أن ألتقيكَ مجدّدا لكن…

الجوّ رائع على شاطئ البحر. غرسنا شمسيّـتنا ما إن وصلنا بيتنا الصّيفي. الرّمال دافئة بل لافحة و أنا أتلـذّذ ذلك الشعور بالاحتراق حين تلامس قدماي رمالَ الشّاطئ المصطلية بوهج القيلولة. الأبناء قبالتي يلهون في أمواج البحر. زوجي انطلق في اتّجاه السّـوق ليزوّدنا بما يلزم من مأكل و مشرب و ما يتبع للاستمتاع بالعطلة.

تمدّدتُ على كرسيّ الشـّاطئ…ثـبـّتُ نظاراتي و فتحتُ أوّل صفحة من الكتاب الذي كنتُ أدّخره للعـطلة…رَأيتُـني أُشبه ذلك الكـتاب:  رأيـتني صفـحة من كتـاب و الكتاب بـشـر…زورقا في مهبّ الريـح و الرياح قدر.
كأنّني شردتُ…كأنّني غبتُ عن هذا العالم…كأنني ركبتُ سحابة من الـذهول…تسارعت دقـّات قلبي…تشنّجت عضلة القلب…أحسست بدوار…سقط الكتاب من يدي في اللّحظة التي اقترب فيها ابني منـّي…لاحظ ذلك…كلـّمني…لم أجب…تفطـّن إلى أنـّني غبتُ عن الوعي..
انتفض كالمجنون: طبيب…طبيب… يلزمنا طبيب…أمـّي ليست بخير…هل من طبيب في الجوار…أين أبـي؟ انـّه طبيب…ما أحوجنا اليه…
تسرّبتْ حالة الذّعر إلى ولديّ اللـّذين التحقا بأخيهما و سَرتْ حالة التـّوتر على ضفاف الشـّاطئ.

لم أكن لأختار أفضل من هذا المكان لتحلقّ روحي فوق زرقة ذلك البحر…لم يكن من مكان آخر أنسب  ليستوعب برحابته رحابة روحي التـّي طالما ضاق بها جسدي…هل سأرحل الآن؟ هل سأرحل من هنا إلى هنا؟ هل حانت ساعتي؟ هل هو قطار الموت مرّ من هنا و كنتُ أوّل راكبيه…؟
أفكار عديدة مرت بذهني في حيز زمنيّ وجيز…رأيتُ أمي و أبي و إخوتي…استحضرت صور أبنائي
و زوجي…و الكثير من المحطات المهمة في حياتي…في وقت وجيز جدا…كأنه شريط عمري يمر أمام عينيي…

“طبيب…طبيب…وجدنا طبيبا أفسحوا الطريق. لا تتحلقوا من حولها…دعوا الأكسيجين ينفذ إليها…خلّوا الطـّريق للطـّبيب…”

مغمضةَ العينين تحسـّستُ أناملك و هي تدلك قلبي المعطوب و تعرّفت إلى صوتك و هو يهتف باسمي أن لا تغيبي…حاولي الصمود…هل تسمعيننا…نحن هنا…
قُمتَ بما يلزم من إسعافات أوّلية لحالة من حالات الأزمات القـلـبيـّة الحـّادة كما شخـّصها الأطبـّاء في المستشفى الـّذي نـُقلتُ إليه تحت متابعتك…

حين فتحت عيناي لم يكن الطـّاقم الطـّبي قد خلـّصني بعدُ من تلك الأسلاك المشدودة إليّ…فتحت عينيّ فوجدتك أمامي…بدت على وجهك علامات التـّجهم…الوجه ذاته…لم أكن لأخطئك و لو بعد مئة عام…الأعوام مضت و تركت علاماتها علي ملامحك…ملامحك ذاتها غير أنها هرمت بعض الشـّيء…لابد أنّ الأمر ذاته قد حلّ بملامحي أيضا…يا للسخرية…يا لسخرية الأقدار منـّا…منـّي و منك.

لم يكن لغَـيرك أن يـدلك قلبي المعتلّ و لم يكن لغيرك أن يطبـّب أوجاعه. لماذا لم تمنح الأقدار زوجي ذلك الدّور…هو الأولى و الأجدر…هو طبيب مختصّ في جراحة القلب و الشـّرايين…هو زوجي العزيز منذ عشرين عاما…هو الـّذي لشدّة ما أحبّـني جعلني أتعلـّمُ أن الحبّ رياضة و دُربة…هو الذي …هو الذي…هو الذي…
هو الـّذي كان ليكون الأنسب ليدلك قلبي و ينجّني من وعكتي.

لم يكن لكَ أن تعاود الظـّهور في حياتي فقد تعوّدتُ غيابك و احترفت نسيانك…نسيانك…كم كنت واهمة. كم كنت كاذبة. كم خدعت نفسي. كم قضيتُ من الوقت و أنا أقنعها بأن تنساك غير انـّك كنتَ قابعا هناك في ثنايا قلبي…
هو ذات الحنين…ذات الارتباك…ذات الشوق يُعاودني إليك…تبـّا لهذا القلب يخذِلني من جديد…تبا له لماذا تتسارع دقاته لرؤياك بعد عشرين عاما…تبّا له لماذا يصرّ من جديد؟

في الأثناء التحق بـنا زوجي ليُخرجنا من حالة الذهول التي سيطرت علينا…لم أنطق بكلمة و تولـّيتَ أنت مهمّة تفسير الأمر لزوجي:
” الحمد لله على السـّلامة. هي بخير. هي زميلة عزيزة من أيام الجامعة. أنا كنت بالصـّدفة على شاطئ البحر حين هتف ابنك ملتاعا يبغي طبيبا…الحمد لله لا خطر على حياتها”.

حياتي؟

و أي حياة تلك التي توهّمتُ يوما أنني امتلكها؟ تلك التي ما كانت يوما لي لأنـّك لم تكن فيها…

غادرتُ المستشفى في غضون خمسة أيـّام و نصح الأطبـّاء بقضاء فترة النـّقاهة في نفس المكان أي على شاطئ البحر فالوعكة سببها أوّلا و بالذات التـّعب و الإرهاق و توتـّر الحياة في العاصمة.
أصرّ زوجي على دعوتك للعشاء تعبيرا منه عن امتنانه لأنك أنقذتَ حياتي.
تفاديتُ الأمر و اختلقتُ أكثر من عذر لكنه أصرّ…نفس الإصرار الذي أصرّت به الحياة على أن تضعك من جديد في طريقي…منزلك الصـّيفي هذا العام مجاور لمنزلي.ماذا عساي أقول و ماذا عساي أفعل؟

تفنـّن زوجي في إعداد العشاء. أنت ضيف مرحـّب به و مبجّل. رافـقـتـكَ زوجتك و بناتك الثلاث. إحداهن تحمل اسمي…نفس الاسم…لم تكن صدفة و لا يمكن لها أن تكون صدفة أن أتقاسم معها الاسم…إحمرّ وجهك و أنت تشرح مدى إعجابك بالاسم منذ تعرّفت إليه حين كنـّا معا على مقاعد الدّراسة في الجامعة.
لم يكترث الجميع لهذا الأمر…مجرّد تشابه أسماء…لا أكثر و لا اقلّ…

أصرّ زوجي على إكرامكم و قام شخصيـّا بخدمتكم جميعا و كان العشاء رائعا و الأطباق شهيـّة و الحوار الذي دار بيـنـنا زاد إعجابه بك و اتـّضح أنـّكما تـتـقاسمان الكـثير: المهنة…الأفكار و الآراء…الهوايـات
و حتى الأطباق المفضّلة لديكما…توطـّدت علاقتك بزوجي لتصبح صديقا مقرّبا من العائلة. نتبادل الزّيارات… و أصبحتَ أنت و زوجي تتقاسمان الكثير أكثر مما كنت أتوقّع حتى أنكما تقاسمتما قلبي…

لم يكن لي أن أفكـّر و لو للحظة في هدم هذه العائلة المثاليّة التي قضيتُ السنين و أنا أبني صرحها العظيم. و لم يكن لي أن أنتزعك من بناتك و زوجتك الرائعة…لم يكن لي… و لم يكن يحقّ لك أن تصارحني بمشاعرك تلك. مشاعرك التي -كما قلتَ أنت- ظـلـّت مدفونة طوال كل تلك السـّنين التي ابتعدنا فيها.
لم يكن لي أن أسمح لك أن تعبث من جديد بحياتي و أن تـُخرّب ما تفانيتُ في تشييده.
أمر مستحيل أن أضحّي بسعادة أبنائي من اجل سعادتي.
لوقت طويل عبثتْ بي أمواج الحيرة… ما العمل و حبـّك مازال نابضا في قلبي و مازلتَ قابعا فيه؟
وهما حَسبتُني انتصرت و وهما حسبتني خلّصتُ قلبي منك و إلى الأبد.

نزل الخبر نزول الصّاعقة على زوجي حين صارحتُه أنـّني أريد الطـّلاق فلم يكن بيننا من خلاف و لم يكن من شيء ينبئ بأنني قد اتخذ قراري ذاك. غير أن الحياة تأتي غالبا بما هو أغرب من الخيال.

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights