الأستاذ سليم اللغماني يحاضر حول “المعتزلة وإمكانيّة قانون بشري” في افتتاح سلسلة المحاضرات “نحو فكر إسلامي بديل”

انتظمت  يوم 30 جانفي 2013 بكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية  بتونس محاضرة بعنوان «المعتزلة وإمكانية قانون بشري» نظّمتها كلّ من  جمعية تونس الفتاة  الممثلة عن طريق رئيسها حمزة عمر و مؤسسة كونراد أديناور الألمانية الّتي حضرت عنها السيّدة  سامية الفقيه أحمد . وقد ألقى المحاضرة السيد سليم اللغماني أستاذ القانون العام والعضو السابق بهيئة الخبراء بالهيئة العليا لتحقيق اهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي. وقد عرّف بأصول هذا التيّار الفكري الاسلامي كما عمل على إيضاح الفوارق التي تميز فكر المعتزلة عن بقية الفرق الإسلاميّة الأخرى مشددا على أن المعتزلة ساهموا بشكل كبير في التمهيد إلى قيام قانون بشري على الرغم من أنّ سلطتهم كانت محنة على من خالفهم.

وقد تميزت هذه المحاضرة بحضور عدد كبير من طلبة كلية العلوم السياسية والقانونية والاجتماعية بالاضافة الى حضور إعلامي محترم.

في بداية المحاضرة تعرّض الأستاذ سليم اللغماني ما كتبه المفكر المغربي محمد عابد الجابري في تصنيفه لبنية العقل العربي حيث اعتبر العقل البياني (علم الكلام وعلم الفقه دون التمييز بين الأشاعرة والمعتزلة) العقل المهيمن على العقل العربي. أمّا العقل العرفاني فيكرّس استقالة العقل بينما  ويعتبر المفكّر المغربي الراحل العقل البرهاني أرقى مستويات العقل العربي. ويبدو إدراج فكر المعتزلة ضمن العقل البياني قابلا للنقد، خاصة للعلاقة الّتي تربط الفلسفة الإسلاميّة بفكر المعتزلة.

وتعرّض الأستاذ سليم اللغماني إلى تنوّع الأفكار عبر التاريخ الإسلامي كبداية لتطرقه للفكر المعتزلي الذي يهيمن عليه جانب عقلانية الفكر، واعتبر المحاضر أنّ الحوار حول المعتزلة أو غيرهم لا يجب أن يكون حوارا حول حقيقة الإسلام، وأنّ المعتزلة يمثّلون تاريخ الفكر الإسلامي لا مستقبله، وفكرهم قابل للنقد والتطوير.

في كيفية ظهور هذا الفكر بين الأستاذ اللغماني بأن نشأة المعتزلة يعود إلى الثلث الأول من القرن الثاني للهجرة أي في أواخر العصر الأموي قبل ان تزدهر في  العصر العباسي  وكان ظهورها متزامنا مع التطرق لمسألة دينية ذات خلفية سياسية ألا وهي حكم مرتكب الكبيرة وبالخصوص إذا كان حاكماً  (بمعنى كيف يمكن اعتبار مرتكب الكبائر اهو كافر ام مؤمن؟)، المعتزلة اعتبروا ، أن مرتكب الكبائر على «منزلة بين المنزلتين» أي أنه مخلد في النار ولكن يعذب دون درجة عذاب الكفار. و أضاف الأستاذ اللغماني بأن الخوارج اعتبروا مرتكب الكبيرة كافرا مخلدا في النار، وبأن المرجئة اعتبروه مؤمناً ويرجئون إلى الله الحكم عليه يوم الحساب. والموقف من هذه المسألة له انعكاس سياسي، إذ أنّها تتعلّق بالحكم على من شاركوا في الفتنة الكبرى، وعلى الحكم الأموي الّذي بدأ مع معاوية بن أبي سفيان. وبموقفهم هذا، كان المعتزلة معارضين للحكم الأموي لكنّهم أقلّ تطرّفا من الخوارج والشيعة.

ثم تطرق الأستاذ المحاضر إلى فرق المعتزلة وميّز بين المعتزلة البصريين الذين اعتبروا فضل الخلفاء الراشديين يأتي حسب ترتيبهم والمعتزلة البغداديين الذين فضلوا عليا بن أبي طالب على بقية الخلفاء لذا فهم قريبون من الشيعة الزيدية. بعد هذا التفريق، ذكر الأستاذ اللغماني الأسماء الّتي أطلقت المعتزلة وقال بأنهم عرفوا كأهل للتوحيد والعدل وأهل الطبائع(أي الحسن والقبيح في طبائع الأشياء ذاتها ) وبالمتكلمين (لأنّهم أوّل من اعتنى بعلم الكلام).

وتعرّض الأستاذ اللغماني إلى تعريفات علم الكلام سواء عند الغزالي وإبن خلدون أو عند المستشرقين (كغارديه وأناواتي) الّتي تجعل من علم الكلام تمجيدا دفاعيّا عن العقيدة الإسلاميّة. وبيّن المحاضر أنّ هذا التعريف جزئي ويصف المآل النهائي لعلم الكلام بعد تدهوره في حين أنّ هذا العلم كان يهدف إلى أن يكون مركز العلوم الشرعيّة، وقد كان أبو حنيفة يسمّيه الفقه الأكبر، ولم تستقّر تسمية هذا العلم لعلم الكلام إلا في القرن الثالث للهجرة.

في حديثه عن مصادر فكرهم، ذكر الأستاذ المحاضر بأنّه إلى حدّ قريب، كانت أغلب المراجع عن المعتزلة كتابات أعدائهم (الأشاعرة، الحنابلة والظاهرية) ومع ذلك، فقد وصلتنا بعض المراجع المباشرة الّتي كانت لها أهميّة في تبيان أفكارهم  ككتاب الإنتصار لأبي الحسن الخياط وشرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار إلى جانب تفسير الزمخشري للقرآن الكريم، والّذي ان له تأثير على عدّة مفسّرين آخرين من غير المعتزلة كمحمّد الطاهر بن عاشور.

ثم تناول الأستاذ اللغماني بالشرح أصول المعتزلة الخمس:

والأصل الأوّل هو التوحيد وقد قال الأستاذ  اللغماني بأن المعتزلة كانوا غلاة في التوحيد من خلال رفضهم كل تشبيه للذات الإلهية . ومن ذلك كل آية توحي بعكس ذلك يتم تأويلها خلافاً لظاهر النص وقدم الأستاذ المحاضر مثالاً من آية قرآنية ” الرحمن على العرش استوى“[5 سورة طه] يعتبرها المعتزلة استعارة وذلك عكس تفسير الحنابلة والوهابية.

كذلك أضاف الأستاذ اللغماني في هذا المبدأ  رفض المعتزلة تعدد القديم و رفضهم فكرة أن القرآن قديم قدم الله ولذلك قالوا أنّ القرآن مخلوق.

أمّا الأصل الثاني، فهو العدل، وقد أرجأ المحاضر الحديث عنه بعد استيفاء باقي الأصول.

 في الأصل الثالث وهو الوعد والوعيد، قال المحاضر بأن المعتزلة يرفضون فكرة المرجئة وبأن طاعة الله تدخل الجنة ومعصيته تدخل النار، وإلا كان وعده ووعيده لغوا وهو ما يتنزّه الله عنه.

الأصل الر ابع وهو المنزلة بين المنزلتين، وقد تطرق له المحاضر عند حديثه عن نشأة المعتزلة.

في الأصل الخامس وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال الأستاذ اللغماني أنّه يجب أن يتم، حسب المعتزلة، باليد أو باللسان أو بالقلب (أضعف الإيمان)

وبالرجوع إلى الأصل الثاني (العدل الإلهي)، ذكر الأستاذ المحاضر أنّ المعتزلة يعتبرون الله عادلا، بل أنّ الله عدل. وكلّ ما يفعله الله له غاية وهي لا يمكن أن تكون إلا الأصلح لخلقه. ويعتبر المعتزلة أنّ أفعال الله كلّها حسنة وأنّه أوجب على نفسه العدل، وأنّ قدرته لا يمكن أن تخالف ما أوجبه على نفسه. وبما أنّ الله سيحاسب الإنسان على أفعاله، فإنّ ذلك لا يمكن أن يكون إلا إذا كانت للإنسان حريّة الاختيار بين الخير والشرّ، والإنسان بذلك مخيّر، خالق لأفعاله.  وحسب المعتزلة، خلق الله الكون وفق نظام عقلاني يمكن للعقل البشري اكتشافه. ويوجد الحسن والقبيح في طبيعة الأشياء ذاتها، وبذلك يمكن للعقل البشري اكتشاف الحسن في الأشياء وجعلها واجبة عليه (التحسين) واكتشاف القبيح فيها وتحريمها (التقبيح). ويعتبر المعتزلة أنّ الوحي لا يفرض الواجب، بل فقط يعلم به، والوحي بذلك لطف إلهي يعلم الإنسان بما يمكن أن يكتشفه عبر عقله. فالعقل عند المعتزلة مقدّم على النقل، وبذلك يكون الإنسان مكلّفا قبل ورود الوحي. وبما أنّ الحسن والقبيح يوجد في الأشياء ذاتها ويمكن للعقل البشري اكتشافهما، فذلك يعني القول بوجود قانون طبيعي يستنتجه الإنسان عقلا من ملاحظته للأشياء.

وقد وضّح الأستاذ اللغماني هذه الفكرة من خلال رسم هرمي في قمّته الله وفي قاعدته الإنسان والطبيعة.

وإستدل المحاضر بأقوال الشهرستاني الذي قال في المعتزلة “واتفقوا على أن الله تعالى لا يفعل إلا الصلاح والخير، ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد” وكذلك ” واتفقوا على أن أصول المعرفة وشكر النعمة واجبة قبل ورود السمع، والحسن والقبح يجب معرفتهما بالعقل “.وإستدل الأستاذ اللغماني في ذلك بأقوال القاضي عبد الجبار وهو من أبرز علماء المعتزلة الذي قال في الأدلة الشرعية “أولها العقل لأن به يميز بين الحسن والقبح، ولأن به يعرف أن الكتاب حجة، وكذلك السنة والإجماع” وقال في خصوص تكليف الله للإنسان “يقدرهم على ما كلفهم ويعلمهم صفة ما كلفهم ويدلهم على ذلك “.

و أشار الأستاذ اللغماني إلى أنه بوصول المتوكل للسلطة أصبح المعتزلة في محنة واندثرت أفكارهم وجاءت أفكار الأشعرية لتحل مكانها فجاء أبو الحسن الأشعري الذي بنى الفكر الإسلامي على أساس تغليب الإرادة الإلهية على العقل الإلهي. وأضاف المحاضر عن الأشعرية بأنه لا تلازم عندهم بين أحكام الله وما تدركه العقول وبأنّه لا يمكن إدراك وجود الله إلا من خلال إرادته وإرادته تتجلّى من خلال النصّ. فالأشاعرة جعلوا من الوحي لا مجرّد لطف بل مناط التكليف وقالوا بأنّ إرادة الله مطلقة والإنسان لا يخلق أفعاله يل يكسبها، ونظريّة الكسب هذه مبهمة وتبطن القول أنّ الإنسان مسيّر. ويرفض الأشاعرة السببية العلميّة لأنّهم يعتبرون في ذلك  مساسا بقدرة الخالق. ويعتبرون قوانين الطبيعة مجّرد عادات، لا قوانين ثابتة، يمكن أن تخرق، وذاك فهمهم للمعجزة.

و قال الأستاذ اللغماني قبل ختم المحاضرة أنّه لا يمكن  المفاضلة بين فكر المعتزلة وفكر الأشاعرة من حيث تماسك الأفكار ذاتها فكل منهما متّسق مع منطلقاته لكن من منظور النتائج العملية،  أكد المحاضر أن المعتزلة مهدوا لإمكانية قانون بشري بقراءة لطبيعة الأشيلء في حين أنّ الأشاعرة جعلوا النصّ المصدر الوحيد للحكم. وأشار الأستاذ المحاضر إلى أن تطوّر الفكر الإسلامي كان عكس ما كان عليه الأمر في الفكر الغربي، حيث كانت للقدّيس أوغسطين أفكار مماثلة لأفكار الأشاعرة في القرن الرابع ميلادي، قبل أن يأتي توماس الأكويني في القرن الثاني عشر بأفكار مماثلة لآراء المعتزلة.

وفي معرض اجابته على الأسئلة الّتي طرحت عليه في النقاش، أشار الأستاذ اللغماني أنّه من المثير للفضول أنّه رغم أنّ المعتزلة ألّفوا في مجال علمي الكلام وأصول الفقه، في حين أنّهم لم يتركوا لنا تآليف في الفقه، مشيرا إلى أنّ أغلب المعتزلة كانوا حنفيي المذهب الفقهي. وأشار المحاضر إلى أنّ فكر أبي حنيفة لم يصل إلينا إلا عبر تلميذيه أبي يوسف والشيباني الذين كانا متأثرين بفقه الأثر، متسائلا عمّا إذا كان أبو حنيفة معتزليا لا سيّما وأنّه كان يقول بالرأي، والرأي في ذلك الأوان كان حرّا ولا ينحصر في القياس كما اصبح فيما بعد.كما أشار الأستاذ اللغماني إلى أنّ المعتزلة عاشوا  في إطار إمبراطورية وبالتالي فإن فكرهم يتنافى مع قيام دولة ومفهوم حديث للديمقراطية. كذلك نوه المحاضر بالحرية الفكرية التي كانت سائدة في القرن الثاني للهجرة إذ كان الجدال يقام مع المسيحيين واليهود وغيرهم من الديانات وأضاف المحاضر بأنه يمكن على الأقل العودة لهذا المناخ الذي كان سائداً.

كذلك أشار الأستاذ اللغماني إلى أن من أسباب فشل المعتزلة نخبويتهم إذ كان خطابهم عصيّا على العامة. فالعقلانية حسب عزلت نفسها من خلال التمييز بين خطاب الخاصة وخطاب العامة. وأضاف المحاضر أنّ الاعتزال الحقيقي هو عزلة العقل، وهي العزلة الّتي طالب بها إبن رشد.

وختم الأستاذ اللغماني اللقاء بإشادته التفاعل الاجتماعي الموجود حالياً و أنه( التفاعل الاجتماعي) ليس كسبا للدولة بل كسب للشعب . وأضاف بأننا اليوم في تونس نبني في ذاتيتنا وهي أحسن طريق للحداثة الأصيلة عكس ما رسخ سابقاً من حداثة سلطوية.

تغطية قناة  حنّبعل للمحاضرة:

http://www.youtube.com/watch?v=ig1kwtG3mh8

ألبوم صور للمحاضرة:

http://www.facebook.com/media/set/?set=a.503730329678197.128222.182958311755402&type=1

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights