النخيل الجريح: بين الدراما وكتابة التاريخ

 يقول الصحفي الفرنسي جون دانيال عن حرب بنزرت:  “كل الحروب قذرة وحرب بنزرت أقذرها”. هي حرب ألقي في أتونها الآلاف ممّن دُعوا إليها بإسم أنبل المشاعر وسالت دمائهم في سبيل إرضاء رغبة بعض الساسة في إثبات موقف أو كسب نقاط. ما زال جزء من خفاياها لم ينكشف، وربّما يكون الفضول إلى معرفة تلك الفترة من تاريخ تونس هو الّذي دعا عددا من الجماهير إلى مشاهدة فيلم “النخيل الجريح” لعبد اللطيف بن عمّار.
تدور أحداث الفيلم بين سنتي 1990 و 1991 بمدينة بنزرت. تلتقي شامة (ليلى واز)، خرّيجة الجامعة التونسية في اختصاص علم الاجتماع، بكاتب معروف يدعى الهاشمي عبّاس (ناجي ناجح) الّذي يسلّمها جزء من مخطوطة كتابه الجديد الّذي يتضمّن ذكرياته عن معركة بنزرت الّتي شارك فيها، حتّى تقوم برقنها على الآلة الكاتبة مقابل أجر. فيما بعد، عندما يعلم الهاشمي أنّ والد شامة هو من شهداء حرب بنزرت، يزعم أنّه لن يكمل كتابه ويستغني عن خدمات شامة الّتي تزداد إصرارا على معرفة  قصّة مقتل والدها، فتلتقي عددا ممّن شاركوا في الحرب وتصطدم برفض بعضهم للكلام، ورغم ذلك تكافح من أجل الوصول إلى الحقيقة.
القصّة، في خطوطها العريضة، محبوكة بشكل متماسك. فالحقيقة تبدو ضائعة بعد ثلاثين سنة على انقضاء أحداث بنزرت  وفي ظلّ غياب عدد من شهودها وبعد أن سجّلها التاريخ الرسمي بشكل يبدو وكأنّه غير قابل لإعادة النظر فيه، وهو ما يجعل نبشها وإخراجها إلى النور عملا صعبا، مهمّة هرقليّة، ولكنّه يستحقّ بالتأكيد العناء، خصوصا في ظلّ البعد الإنساني الّذي تعبّر عنه حيرة فتاة فقدت أباها وهي لم تتمّ شهرها السادس بشكل غامض ومعاناتها وأمّها من شظف العيش وفقدان السند على امتداد عقود. هذا البعد الإنساني تعزّزه علاقات البطلة مع صديقتها الجزائريّة ومع خليل إبن صديق والدها ومع حفيد الكاتب وهي علاقات تضفي نوعا من الدفء على الشريط. ورغم أنّ من كانوا يمنّون النفس بأن يكون الفيلم قراءة تاريخيّة مغايرة للمألوف عن أحداث بنزرت قد يخيب أملهم، نظرا لأنّ البعد الدرامي يطغى على البعد التاريخي، إلا أنّ الشريط يثير سؤالا حول ماهيّة التاريخ: من يكتب التاريخ؟ ولئن كانت العبارة الواردة في الفيلم “التاريخ يكتبه المنتصرون”، فإنّه ربّما يكون من الأصحّ القول، تماشيا مع ما ورد مع الفيلم، أنّ التاريخ يكتبه المثقّفون المسلّحين بأدوات المعرفة والعاجزين عن الالتزام الفعلي والّذين منحهم جبنهم حياة جديدة. فالبطل نكص على عقبيه بعد سماع أولى الطلقات وعجز عن الإيفاء بواجبه الوطني تجاه بلاده، بل حتّى بواجبه الإنساني البسيط تجاه صديقه. ومع ذلك، فهو يكتب التاريخ وينسب لنفسه ما شاء من البطولات. أمّا الأبطال الحقيقيون الّذين يعرّضون صدورهم للرصاص، فتذهب دماؤهم نسيا منسيّا. هذه الإدانة لهذا النوع من المثقّفين لا تنسحب فقط على حرب بنزرت، بل يمكن أن تجد صدى لها في التاريخ الّذي سيكتب لاحقا في خصوص الثورة التونسيّة الحاليّة.
ورغم التماسك الإجمالي للحبكة، فإنّ بعض الحكايات الجانبيّة أضرّت بنسق الفيلم وأبطأت منه. فقصّة الصديقة الجزائريّة وزوجها تبدو مقحمة إقحاما دون علاقة حقيقيّة مع القصّة الرئيسيّة. لماذا تم اختيار الجنسيّة الجزائريّة للصديقة؟ أ لأنّ الجزائر كانت تعيش بدايات حربها الأهليّة، أم فقط لأنّ بعض منتجي الفيلم هم من الجزائريين؟ كذلك يطرح السؤال بشأن اختيار تاريخ الأحداث. لماذا وقع اختيار بداية التسعينات؟ أ لأنّه من الضروري أن تكون بطلة الفيلم الّتي فقدت والدها في حرب الجلاء في سنّ الشباب؟ أ ذلك لإقامة التوازي بين حرب الخليج الّتي كانت تدور أحداثها في نفس الفترة وفي نفس الوقت مع حرب الجزائر الأهليّة؟ إذا كان الأمر يتعلّق بإدانة الحرب في جميع أشكالها، وبالتالي محاولة إضفاء طابع كوني على الفيلم، فالمحاولة غير موفّقة والرابط بين الحروب الثلاث لا يكاد ينجح في استرعاء اهتمام المشاهد.
وإضافة إلى الحكايات الجانبيّة، أضرّت بنسق الفيلم بعض الأحداث الّتي تبدو غير مستساغة في نطاق الحبكة الرئيسيّة. لماذا سعى خليل إلى إثناء شامة عن البحث عن حقيقة مقتل والدها رغم أنّ هذه الحقيقة لا تمسّ في شيء من بطولته؟ لماذا امتنع المناضلون القدامى عن الكلام، باستثناء شخص واحد؟ ربّما كان الخوف من نفوذ الكاتب المشهور هو السبب، لكنّ جعل كلّ الحقيقة بيد شخص واحد يبوح بها في النهاية يجعل من أغلب رحلة البحث المضنية غير ذات جدوى. كذلك، يبدو مشهد غرق حفيد الكاتب في المغطس غير مبرّر، بل وغير منطقي إلى درجة الغرابة، فالطفل ليس حديث السنّ بشكل يجعله غير قادر على الوقوف في مغطس !
أمّا اختيار العنوان، فلا يكاد يجد مبرّرا له في أحداث الفيلم. فباستثناء إشارة عابرة في حديث بين البطلة وحفيد الكاتب إلى النخيل الّذي اخترقه الرصاص، فلا شيء يذكر عن النخيل الجريح في باقي أحداث الفيلم. وربّما كان يجدر العودة باستمرار إلى مشهد النخيل واستلهامه في أحداث الفيلم حتّى يكون جديرا بحمل عنوانه.
وعموما، فشريط النخيل الجريح هو محاولة جادة تسائل التاريخ، دون أن تسبر أغواره، في إطار درامي شائق ممّا يجعله جديرا بالمشاهدة، لا سيّما و أنّه يخلو تماما من المشاهد الساخنة المجانيّة والممجوجة المعروفة عن الأفلام التونسية التجاريّة.

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights