ماكينات

[et_pb_section admin_label=”section” fullwidth=”off” specialty=”on”][et_pb_column type=”3_4″ specialty_columns=”3″][et_pb_row_inner admin_label=”row_inner”][et_pb_column_inner type=”4_4″ saved_specialty_column_type=”3_4″][et_pb_text admin_label=”النص”]

بقلم: حمزة عمر

كان من المستغرب أن يعرب عدد من قيادات الجبهة الشعبيّة عن ابتهاجهم بحصول المرشّح حمّة الهمّامي على المرتبة الثالثة في الانتخابات الرئاسية كما كان من المستغرب من قبل ذلك التعبير عن الرضا بالنتائج المحقّقة في الانتخابات التشريعية والتي لم تتجاوز 15 مقعدا. فالنسب المتحصّل عليها لا تتجاوز 7%  من مقاعد مجلس نوّاب الشعب و8% من الأصوات في الانتخابات الرئاسية. مثل هذه النسب بعيدة كلّ البعد عن النتائج الّتي حقّقها الحائزان على المرتبة الأولى والثانية، ممّا يجعل من الجبهة قوّة محدودة الوزن في التوازنات السياسية الحالية.  وفي الحقيقة، الإنجاز الأكبر للجبهة لا يكمن في النسب المتحصّل عليها، وإنّما في طريقة اكتسابها، إذ أنّ ذلك حصل في غياب آليات حقيقية يمكن أن تفرز نسبا مؤثّرة، وهو ما يصطلح على تسميته “بالماكينات”.

ويمكن تعريف “الماكينات” بصفتها القدرة على تعبئة الجماهير في اتّجاه معيّن عن طريق شبكة قائمة من العلاقات. وفي المشهد التونسي، يمكن ملاحظة وجود ثلاث ماكينات فعليّة: الماكينة الإسلامية والماكينة الدستوريّة/التجمّعية والماكينة النقابية.

وقد أثبتت الماكينة الإسلاميّة قدرتها الكبيرة على الصمود. فعلى الرغم من القمع الّذي تعرّضت له حركة النهضة في العهد السابق للثورة، فقد استمرّت ذات حضور مستتر طوال العشرين عاما السابقة للثورة (في الخلايا النائمة وفي عائلات مناضلي الحزب خاصة)، ثمّ جاءت الثورة ليتمّ إعادة تفعيل هذه الماكينة بسرعة عجيبة لتفرض الحركة نفسها إثر انتخابات 2011 كقوّة سياسيّة أولى في البلاد. وحتّى التقهقر الّذي عرفته الحركة في الانتخابات الأخيرة، والذي كان طبيعيّا إثر فترة حكم قصيرة تراكمت فيها أخطاء فادحة ناتجة أساسا عن نقص الخبرة في التعامل مع القوى الفاعلة في المجتمع وفي ظلّ صعود منافس ذي بال، فإنّه أكّد في نفس الوقت القدرة التعبوية الفائقة للحركة، فليس بالهيّن في ظلّ ما ذكر الحصول على ما يقارب ثلث مقاعد المجلس. وتأكّد ذلك في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية، إذ أنّ المرشّح غير المعلن للحركة نجح في الحصول على المرتبة الثانية بفارق غير كبير عن المتصدّر.

أمّا الماكينة الدستورية/التجمعيّة، فيبدو أنّها كانت في طريقها إلى التفكّك بعد الثورة. ففي ظلّ غياب حزب ذي زعامة كاريزمية، الّتي ميّزت الحزب الدستوري بمختلف تسمياته، استغلّت جلّ الأحزاب المترشّحة في انتخابات 2011 الشبكات التجمّعية لحصد الأصوات، إذ بحث الناشطون في الحزب الحاكم التاريخي عن مواطئ قدم جديدة لهم بعد أن تهيّأ أنّ قدر الدساترة يدفعهم للغياب عن الساحة بعد حكم امتدّ لأكثر من نصف قرن. على أنّ الخلاص جاء بصعود شخص الباجي قائد السبسي الّذي جمع الشبكات الّتي كادت تتفرّق سبّا وقادها لإحراز المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعيّة والدور الأوّل من الانتخابات الرئاسية.

وفيما يخصّ الماكينة النقابية، فإنّ ما يميّزها هو بقاؤها محايدة، في الظاهر على الأقل، وعدم اقتحامها ميدان السياسة بمعناها الحزبي والمؤسساتي، وذلك رغم تقاربها الفكري الطبيعي مع عائلة الأحزاب اليسارية، ورغم أنّه في بعض البلدان، تتداخل النقابة عضويّا مع حزب اشتراكي كبير. ولعلّ هذا الموقف يرجع إلى الرغبة في الحفاظ على موقع يمكّن الاتحاد العام التونسي للشغل من تجنّب الأزمات السياسيّة ويؤهّله للعب دور تحكيمي بين مختلف الأطراف في حال وقوعها، كما تبيّن ذلك من خلال الحوار الوطني في السنة الأخيرة. كما أنّ الاتّحاد قادر دائما على التصدّي للسياسات الحكومية من خلال تعطيل قوى العمل في حالة وجود صدام بينه وبين الحكومة، وأجزم أنّ جزءا كبيرا من فشل الترويكا في الحكم يعود إلى أنّها توهّمت، في سكرة النصر الانتخابي، أنّ الأغلبيّة البرلمانية تكفيها لحكم البلاد دون أن تعي أنّ قوّة غير حزبيّة قادرة دون كبير عناء على إيقافها. فالاتّحاد يفاوض الحكومات دائما ندّا لندّ، ممّا يجوز معه القول أنّ المكسب الأكبر للحياد الحزبي للاتّحاد هو أنّ المنظّمة الشغيلة تحكم دائما، بشكل من الأشكال.

ورغم اختلاف مرجعيّات الماكينات الثلاث، فإنّ الفصل بينها ليس دائما جامدا. والماكينة الدستورية/التجمّعية هي الّتي تحتلّ موقع الوسط بين نظيرتيها وذلك لـ”مرونة” المرجعيّة الدستورية الّتي لا تمانع في التأرجح بين الاشتراكية والليبرالية والمحافظة وحتّى إيجاد تبريرات للفساد. على أنّ هذه الماكينة هي الأكثر هشاشة بما أنّها لم تتمكّن من الحفاظ على تماسكها إلّا باستجلاب زعيم في عقده التاسع من تاريخها البعيد. وفي غياب “خليفة” واضح له، وفي ظلّ الضعف الهيكلي الحالي لحزب لم يقم أيّ مؤتمر بعد مرور حوالي السنتين على تأسيسه، تبقى هذه الماكينة مرشّحة في وقت قريب للتفكّك وربّما لتطويعها أو حتّى ذوبانها في ماكينة أخرى، على الأرجح أن تكون الماكينة الإسلامية نظرا لغياب حضور سياسي معلن للاتّحاد، وذلك رغم أنّ الدساترة والنقابيين كانوا أكثر من متقاربين في بعض الفترات من التاريخ القريب للبلاد.

caricature-elections-tn-nominations-pouvoirلا يبدو أنّ هناك قوّة أخرى، موجودة أو بصدد التشكّل، خارج هذه الماكينات الثلاث التي قد تجهض أيّ محاولات جادة لمنافستها حتّى تحتكر مواقع النفوذ. وينتج عن ذلك أنّ الفشل هو مصير أيّ محاولة للوصول إلى الحكم خارج إطار الماكينات، إلّا إذا اقتصر الأمر على “ظاهرة” عابرة لا تدوم طويلا. ولذلك، فعلى كلّ ناشط سياسي يطمح إلى لعب الأدوار الأولى في البلاد أن يوظّف أحد هذه الماكينات وأن يقبل لضمان ودّها الارتهان لها، حتّى وإن لم يكن عضويّا منتميا إليها (والمثال الأكثر وضوحا يبرز في علاقة المنصف المرزوقي مع الماكينة الإسلامية). أمّا من جهة الناخب، فإنّ أثر الماكينات يبرز في طغيان مفهوم “التصويت المفيد” الذي ينمّط حتّى الناخبين غير المنتمين إلى القوى الثلاثة لكي يدخل موضوعيّا في إطار إحداها، حتّى إذا لم يكن ذلك منسجما تماما مع قناعاته.

بالعودة إلى النسب التّي تحصّل عليها مرشّح الجبهة الشعبيّة حمّة الهمّامي، فإنّ كلّ أهميّتها تتأتّى من أنّ الحصول عليها جاء دون ماكينة. فمرشّحا الماكينتين الإسلامية والدستورية واضحان باديان للعيان (رغم الخزعبلات السياسية التي لم تنجح في طمس ذلك)، والماكينة النقابية خارج اللعبة السياسية كما سبقت الإشارة إلى ذلك، حتّى إن تعاطف عدد من أفرادها مع مرشّح اليسار. وبالتالي، كان المجهود المبذول في حملة مرشّح الجبهة كبيرا للغاية لحشد التأييد الكافي وهو تأسيس على غير بناء سابق.  في غياب الماكينة، يتحوّل إقناع كلّ ناخب إلى نوع من المعارك. ولذلك، فعكس الأصوات الّتي حصل عليها المرشّحان الحائزان على المرتبتين الأولى والثاني، فالأصوات التي ذهبت إلى حمّة الهمّامي هي في مجملها ثمرة اقتناع بالشخص وبالمشروع…هي ثمرة نيّة حسنة. غير أنّ النيّة الحسنة ليست حدثا سهل التكرار في السياسة، ومن السذاجة التعويل على وقوعها مرّة أو مرّات أخرى. ولا يمكن تفادي هذه السذاجة إلّا بتحويل هذا الحشد إلى ماكينة، وهو غير وارد كما سلف الذكر، أو بتحويل الماكينة المحايدة لصالحه، وهو ما ليس متوقّعا في الوقت الحالي لكن لا يبدو أنّ هناك خلاصا ممكنا لليسار السياسي خارجه.

[/et_pb_text][/et_pb_column_inner][/et_pb_row_inner][/et_pb_column][et_pb_column type=”1_4″][et_pb_sidebar admin_label=”Sidebar” orientation=”right” background_layout=”light” area=”sidebar-1″ remove_border=”off”] [/et_pb_sidebar][/et_pb_column][/et_pb_section]

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights