هبّ النسيم عراقيا فشوّقني…

بقلم: أنيس عكروتي

تمثال الشاعر محمد مهدي الجواهري بشارع المتنبّي ببغداد (تصوير رسول علي)
تمثال الشاعر محمد مهدي الجواهري بشارع المتنبّي ببغداد (تصوير رسول علي)

هَبّ النّسيمُ عِراقِيّاً، فشَوّقَني ***** وطالما هبّ نجدياً فلم يشقِ
هكذا قال صفي الدين الحلي في العراق المجيد..عراق الحضارة ، عراق المعمار ، عراق الشّعر كذلك..
بغداد..عصور من الشعر والشعراء..لو لم تنجب العراق شاعرا غير المتنبي لظل كافيا بمفرده..
لم يكن أوّل الشعراء الذي أنجبهم العراق فقد سبقه الى الحياة عديدون وجاء بعده وسيجيء كثيرون..
العراق أرض شاعرة بطبعها فالشعراء الذين مرّوا أو عاشوا هناك يصعب على اي عقل ان يحيط بأسماءهم..
هذه الرقعة المعروفة بطبيعتها الخلابة على مر الازمنة هي منبت للشعراء كذلك..
فكيف لنا ان ننسى مالك بن الريب التميمي المازني الذي نشأ في البصرة والذي ترك لنا يائيته الشهيرة وهي اول قصيدة في تاريخ الشعر لشاعر يرثي نفسه بعد ان لدغته حيّة ( ألا ليتَ شِعري هل أبيتنَّ ليلةً * بوادي الغضَى أُزجي الِقلاصَ النواجيا ) والكميت بن زيد الHسدي الذي نشأ في الكوفة ومدح الهاشميين من آل بيت النبي..
و بشار بن برد والعباس بن الأحنف وأبو نواس وابن الرومي والبحتري وابن المعتز وأبو سعد الكاتب الذي قال في العراق :
فدى لك يا بغداد كل مدينة من الارض حتى خطتي ودياريا
فقد سرت في شرق الارض وغربها وطوفت خيلي بينها وركابيا
فلم أر فيها مثل بغداد منزلا ولم أر فيها مثل دجلة واديا
و لا مثل أهليها أرق شمائلا وأعذب ألفاظا وأحلى معانيا

هؤلاء وغيرهم مهدوا الطريق للمتنبي الذي أطلق أبيات كالخيول التي تسابق بعضها في مضمار الزمن..
و هذا صفي الدين الحلي ( نسبة الى حلة بابل قريبا من الموصل ) ينشد في العراق ” هَبّ النّسيمُ عِراقِيّاً، فشَوّقَني، وطالما هبّ نجدياً فلم يشقِ ” ( مقطع من قصيد “إنْ لم أزُرْ رَبعَكم سَعياً على الحَدَقِ”..)
و ابن زريق البغدادي الذي سافر الى الاندلس ومات وهو مشتاق لرؤية وطنه .. وآخر ما كتب ” أستودع الله في بغداد لي قمرا ****** بالكرخ من فلك الازرار مطلعه… ”
العراق هو كما قال عنه صاحب معجم البلدان ياقوت الحموي : ” ما دخلت بلدا قط إلا عددته سفرا الا بغداد فحين دخلتها عددها وطنا ”
بغداد كذلك لها أثر في الشعر المعاصر..فمن النادر ان نجد شاعرا عربيا لم يتغن بالعراق او حتى لم يتأثر بما كتب شعراءها..
نجد في هذا الصدد قصيدا للشاعر أحمد رامي قد ألقاها في احدى مهرجانات الشعر ببغداد يقول في مطلعها : ” في هوى بابل وحب النواسي ***** جئت أسري على هدى إحساسي .. ”
أما الشاعر عبد الوهابي البياتي فلخص هذه الحالة الاستثنائية لهذه المدينة الاستثنائية فقال في احدى بغدادياته :
مهما طال حوار الابعاد..
فستبقى بغداد..
شمسا تتوهج..
نبعا يتجدد ..
نار ازلية ..
رؤيا كونية..لطفولة شاعر..
أما نزار قباني فقال في قصيدته ” إفادة في محكمة الشعر ” في مهرجان الشعر التاسع ببغداد سنة 1969 :
مرحباً يا عراقُ ، جئتُ أغنّيكَ
وبعـضٌ من الغنـاءِ بكـاءُ

مرحباً، مرحباً.. أتعرفُ وجهاً حفـرتهُ الأيّـامُ والأنـواءُ؟
أكلَ الحبُّ من حشـاشـةِ قلبي
والبقايا تقاسمتـها النسـاءُ

كلُّ أحبابي القدامى نسَــوني لا نُوارَ تجيـبُ أو عفـراءُ
فالشـفاهُ المـطيّبـاتُ رمـادٌ وخيامُ الهوى رماها الـهواءُ
سـكنَ الحزنُ كالعصافيرِ قلبي
فالأسى خمرةٌ وقلبي الإنـاءُ

أنا جـرحٌ يمشـي على قدميهِ
وخيـولي قد هدَّها الإعياءُ

فجراحُ الحسينِ بعضُ جراحي
وبصدري من الأسى كربلاءُ
الشاعر الثائر مظفر النواب أنشد قائلا في قصيدته جسر المباهج القديمة :
فأين البصرة ؟!

صحيحٌ أين البصرة ؟

البصرة بالنِيّات

لقد خلصت نِيّاتي

وتسلق في الليل عمى الألوان عليها

أين البصرة ؟

أين البصرة ؟ مشتاق

بوصِلتي تزعم عدة بصرات

منذ شهور قلبي لا يفرح إلا بين النخل

أتسير ببوصلة ؟!
عند الحديث عن العراق والشعر لا يمكن ان نتغافل عن ذكر الشاعر الكبير بدر شاكر السياب والذي رأى أيضا ما يدور الآن على أرض العراق ورسمه كأنه يراه رأي العين :
حديد عتيق ورعب جديد..
حديد..
رصا..ص..
لأن الطغاة يريدون ألا تتم الحياة..
مداها..و الا يحس العبيد..
بأن الرغيف الذي يأكلون أمر من العلقم..
و أن الشراب الذي يشربون أجاح بطعم الدم
….
شاعرنا التونسي الراحل عبد الحفيظ المختومي وفي ديوانه ” الكنعاني المغدور ” يرثي العراق قائلا :
هذه بغداد !
هل انتحر على اسوارها الغزاة ؟
و هذه دجلة كالمسيح وحده
و النخل..
يبكي صمته..الفرات..
فأين فاتحونا..و أبطالنا الاباة ؟
….
(مقاطع من قصيد ” نقوش على جدران الحاضر “..)

من المؤكد أننا لم نذكر عشرات الشعراء الذي تغنوا بالعراق او ترعرعوا فيه..فهذا المجال الضيق لن يتسع لذكر أجيال عديدة نحتت اسم العراق بأحرف من ذهب..
ختاما أوّد أن أهدي هذا النصّ الى الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري في ذكر رحيله السابعة عشرة (توفي في 27 جويلية 1997 ) .. الشاعر العاشق للعراق..سئل في مرة لماذا تقول : العُراق وليس العِراق ؟
فأجاب : يعز عليّ كسر عين العراق ..

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights