وجع في الخاصرة هو جرح الذاكرة: في ذكرى 26 جانفي 1978

كنا نريدُ أوطاناً نموتُ من أجلها .. وصارَت لنا أوطانٌ نموتُ على يدها ..

أحلام مستغانمي
قارئي العزيز، أستسمحك عذرا، سأكتب اليوم بحبر الغراب مقالا حزينا كلامه مر يخرج من قاع الجراب لأستعيد وإياك ذكرى 26 جانفي 1978، الخميس الأسود كما يسميه البعض أو الأحمر كما يرتئي آخر. وبين اللونين تزدحم الذاكرة بأسماء أكثر من 450 شهيد (قتيل في رواية أخرى) وأكثر من ألف جريح سقطوا في أقل من خمس ساعات من الجنون ومن شطحات الشيطان على إيقاع الأطماع والصراع المحموم على خلافة الزعيم بورقيبة.
في شرح الأسباب يقول بعضهم أن المرحوم الهادي نويرة هو المسؤول الأول عن ما حدث لأنه فقد أعصابه عندما اشتم رائحة “الخيانة ” من لقاء صديقه ومنافسه على الزعامة الحبيب عاشور بعدوه القذافي ومحمد المصمودي في طرابلس. هذا الأخير يقال بأنه هو من دفع للمواجهة وحبك قصة الخيانة ليتخلص من نويرة وعاشور معا ويعود إلى قرطاج مظفرا مدعوما بأموال وهواجس العقيد معمر القذافي. في قرطاج كانت وسيلة بورقيبة والطاهر بلخوجة يخططان معا للتخلص من الغريم الأزلي نويرة. في القصبة كان وزير الدفاع عبد الله فرحات يدفع بالأمور نحو الصدام معتبرا نفسه الأجدر بالخلافة وهو من يملك ورقة العسكر الذي ستكون له الكلمة الفصل عندما تعم الفوضى مستغلا تبعية قائد الجيش عبد الحميد بالشيخ. في باب بنات كان محمد الصياح يراهن على المواجهة لخلط الأوراق عساه يكسب في إعادة التوزيع وهو الذي يسيطر على الحزب وميليشياته. كل هذه المناورات والطموحات في ظل غياب آلية دستورية ناجعة لترجيح كفة أحد المتنافسين كانت كافية لإشعال البلاد ولم ينقصها إلا جلسة خمرية في نزل “قصر سوسة” هدد فيها عبد الله الورداني، وقد ثمل وأعياه سكره فأفصح عن نواياه، باغتيال الحبيب عاشور بنفس المسدس الذي قتل به المرحوم صالح بن يوسف. انتشر الخبر كالنار في الهشيم وأصبح الإتحاد في مواجهة مفتوحة مع حكومة فقدت صوابها وتعززت بصقور جدد (زين العابدين بن علي مديرا للأمن بدلا عن السيد عبد المجيد بوسلامة) استعدادا “للحرب”.
في الطرف الآخر، وبعيدا عن كل هذه الدسائس والمؤامرات، كان العمال والنقابيون في المقاهي وفي الشوارع يتحدثون عن الإضراب العام الموعود بحماس مؤمنين بعدالة قضيتهم وممنين النفس بالحصول على زيادة ببعض الدنانير لشراء جهاز تلفاز إن أمكن أو لختان الإبن البكر في الصيف القادم وفي الأغلب لسداد ما تخلد من ديون. لم يخطر ببالهم يوما أنهم سيكونون حطبا لحرب لا تعنيهم وأن عجلة الصراع ستطحنهم بلا مبالاة. زخات الرصاص تنطلق من كل حدب وصوب وعشرات الجثث في الشوارع وعربات الجيش والشرطة وميليشيا الحزب تحمل المعتقلين بالمئات إلى ثكنة بوشوشة وغيرها حيث تتكدس الأجساد فوق بعضها البعض وتعم رائحة الموت والدم المتخثر والعرق وأشياء أخرى… يخرج من شق في الجدار فأر صغير، يهم بدخول أحد غرف الإيقاف ولكنه يعود على أعقابه إذ تعترضه رائحة الحقد والضغينة الوطنيين فينسحب متمتما لعنات غير مفهومة ويطرق لحظة وكأن لسان حاله يقول ” يا إلاهي ! لا أفهم كيف فضلت بني البشر على خلقك أجمعين”.
في الجزء الآخر من العالم، وفي شهر جوان من تلك السنة كان المونديال وشاركت بلادنا لأول مرة في كأس العالم لكرة القدم وكانت المباراة الأولى أمام المكسيك وكان غميض يتقدم بالكرة ويمررها ببراعة لذويب ليسجل الهدف الثالث. وتهتف الجماهير فرحا في المدارج وفي الشوارع وفي البيوت وينتفض ضابط البوليس منتشيا بالانتصار دون أن ينسى، في لحظة فخر وطني، أن يطفأ سيجارة أخرى في جبين أستاذ الفلسفة الذي يحقق معه والمتهم بالتحريض على الإضراب العام. في غرفة مجاورة كان بعض الأعوان الذكور يشهدون درسا في الرجولة تكتبه الأستاذة المناضلة منيرة جمال الدين محظي التي لم تفلح كل التهديدات والاعتداءات في كتم صوتها المدوي الذي ظل ضميرا لوطن خذله الكثير من رجاله الذين كانوا كتوتياء البحر كثيرة الشوك، قليلة المح.
في سجن برج الرومي كان النقابيون مجتمعين حول زميل لهم يحتضر أو يكاد وهم يرقبون الباب الموارب بعيون مات فيها الخوف، إذ لم تعد الأنفس تتسع للمزيد منه. ولكنها كانت عيون شاخصة تنتظر قدوم الطبيب الذي وعدت إدارة السجن بجلبه عساه ينقذ صديقهم الذي جعلته الحمى يرتعد من البرد في شهر أوت القائظ. كانوا يهمسون في أذنه بعض كلمات التشجيع ويذكره أحدهم بنشيد الإتحاد:
يا خطى العامل يا أماني فلاح
يا وصايا حشاد في دروب الكفاح
أبدا لن يضيع حقكم لن يضيع
وسنبني الربيع فوق هذه القمم ”
أما هو فلم يكن ليراهم أو ليسمعهم، كانت الحمى قد جعلت على عينيه غشاوة بيضاء تحجبهم عنه وفيها يرى امرأة ساحرة تنحني عليه بلباسها التقليدي، تفوح منها رائحة العنبر والحناء، وتهمس في أذنه” لا تخف يا بني، أنا أمك تونس”، تمسح بيدها الندية جبينه الذي يتفصد عرقا وتضيف ” يا ولدي لا تحقد على إخوتك فقد قسوا علي كما قسوا عليك وتنكروا لحليبي وجحدوا وصيتي عندما جمعتكم حول خبز القمح وزيت الزيتون وقلت لكم” كونوا إخوة متآزرين” أتذكر؟
لاحت على شفاهه ابتسامة متألقة وضحكت عيونه وبالكاد سمعه رفاقه يقول بصوت غلبت عليه الحسرة والشجن” أذكر جيدا أماه، ولست حاقدا على أحد فإن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي فأنت مرادي وشاطئي الذي طالما بحثت عنه وأظنني وصلت”.
الآن وقد مضى ما مضى وقضى من قضى، تمر الذكرى تلو الأخرى في صمت مريب. هل هو الخجل من التاريخ الدامي أم أنها محاولة لمحوه فلا نستفيد من دروسه كي تتكرر الفاجعة مرة أخرى وأخرى ويتغنى كل جيل بأبطاله وبضحاياه ونكون بذلك عادلين في اقتسام النوائب. بعد أحداث 1978 كان الصغير أولاد أحمد في زنزانته بالقرجاني سنة 1985 يكتب قصيدة يرسم فيها مناب جيله من الأحزان ومن أخطاء الوطن.
نقابي/ ومعترف/ ومنضبط/ ومختلف
ونور الفجر يغمرني/ وهذا الليل منصرف
كفى !/ يكفي !
طويت سجونكم طيا/ وها إني هنا أقف
و أعترف :/ أنا الربح المسجل في خسائركم
أنا الصدف/ صرير الباب ميقاتي
و خد الماء مرآتي/ وإخواني إذا وقفوا
هوى « الشرفاء» والشرف.

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights