صوت الناخب والمشروع الغائب

مع تأسيس حزب نداء تونس وما قيل عن انضمام الآلاف من المواطنبن إليه وكذلك ما يشاع عن نيّة بعض الأحزاب الديمقراطيّة الانخراط فيه أو التحالف معه، يبدو المشهد السياسي التونسي (في انتظار تحديد طريقة الاقتراع) في طريقه نحو ثنائيّة حزبيّة يكون قطباها حركة النهضة من جهة وحركة نداء تونس من جهة أخرى. وتكون فيها الأحزاب الأخرى مكتفية بلعب دور المرجّح في المعركة السياسيّة لتمنح بتحالفها مع أحد القطبين الأغلبيّة لهذا الطرف أو لذاك.

ولئن كانت الثنائيّة الحزبيّة عنوان استقرار الأنظمة الديمقراطيّة العريقة (كالنظام البريطاني والنظام الأمريكي)، فإنّها كذلك تقلّص مجال الخيار أمام الناخب الّذي يكون مضطرّا، إذا لم يشأ أن يضيع صوته هباء، أن يختار بين حزبين، عادة ما يكون أحدهما من يمين الوسط والآخر من يسار الوسط، لا لأنّه يكون موافقا على برنامجه في أدقّ التفاصيل، بل فقط لأنّه يساند التوجّه العام.

ولكنّ الخيار أمام النائب التونسي يبدو صعبا أمام قطبين يبدو كلّ منهما غير قادر على بلورة مشروع خاص به.

فحزب نداء تونس هو حزب مشخصن للغاية، لا يكاد ينفصل عن شخص مؤسسّه الباجي قائد السبسي، فاستقطابه للناخب يعوّل بالدّرجة الأولى على رصيد الثقة الّذي تكوّن لصالح الرّجل في سنوات خدمته الطويلة في العهد البورقيبي أو كوزير أوّل في المرحلة الانتقاليّة. ويزعم هذا الحزب انتسابه إلى الحركة الدستوريّة وإلى رجال الإصلاح في تونس، لكنّ هذه المرجعيّة لا يمكن أن تحيل على مشروع واضح المعالم. فالحزب الدستوري، بتطوّر تسمياته، كان منذ نهاية معركة التحرير الوطني حزبا يرتبط أشدّ الارتباط بشخصيّة زعيمه ويتلوّن بتلوّنها دون أن يكون خطّه السياسي واضحا (اللهمّ إن كان البقاء في السلطة لأطول خطّ ممكن خطّا سياسيّا !)، فانتقل من اشتراكيّة التعاضد الّتي أهلكت البلاد والعباد إلى ليبراليّة أوصلت البلاد إلى حافة الإفلاس سنة 1986 إلى انتهازيّة صريحة وفساد شبه معلن في عهد بن علي. أمّا عن ادّعاء إرث روّاد حركة الإصلاح، فيبدو الأمر مبهما، إذ لا أظنّ أنّ خير الدّين أو بيرم الخامس أو إبن أبي الضياف كان دستوريّا ! ولا ندري، ما عدا هذا الشعار الّذي يتردّد ما هو المحتوى العملي الّذي يراه الحزب لهذا الفكر. وادّعاء البورقيبيّة لن ينقذ من هذا المأزق، فأبرز معالم مشروع بورقيبة هي بناء مؤسّسات الدولة المستقلّة وإصدار مجلّة الأحوال الشخصيّة وتعميم التعليم والصحّة، وكلّها مكاسب تحقّقت في عهد صاحبها ولا يماري فيها عاقل، فما بقي للإضافة سوى الحكم باسم الموتى؟ ولا ننسى وأنّ بورقيبة وإن كان “مستنيرا” فهو كان قبل كلّ شيئا “مستبدّا”، ووهم المستبدّ المستنير الّذي يقودنا بعصاه إلى الهدى من الأوهام الخطيرة الّتي عطّلت العمليّة الديمقراطيّة في مجتمعاتنا، وقد استعاد قائد السبسي هذه الصورة عندما أطلق قولته الشهيرة، والبلاد تمرّ يومها بمرحلة انتقاليّة حرجة للغاية: “نحكم وحدي وحد ما يحكم معايا”.

أمّا حركة النهضة، فهي إلى الآن ترفع شعار “الإسلام هو الحلّ” دون أن تعطيه أيّ مضمون حقيقي، فنجد بعض قادتها يتحدّثون عن النموذج التركي العلماني والتمسّك بمدنيّة الدولة والبعض الآخر يتحدّث عن قطع الأيدي والأرجل من خلاف وتطبيق الشريعة ويعتبر فكرة الفرد، وهي أساس الحداثة في مهدها، غريبة عن مجتمعاتنا (انظر مقالنا:  على هامش حوار راشد الغنوشي مع نائلة السليني: قراءة في خطاب حركة النهضة). ولم تبدي الحركة حرصا على صياغة مشروع واضح المعالم سعيا منها لجمع أكبر عدد ممكن من الأصوات، فالشعار المذكور يمكن أن يجلب مختلف التيّارات، من الداعية إلى الخلافة إلى اليسار الإسلامي. واستمرّ هذا الغموض البراغماتي في مؤتمرها الأخير الّذي لم تتّخذ فيه أيّ قرارات فيما يخصّ مشروع الحركة، واقتصر الأمر على انتخاب مجلس للشورى جمع شخصيّات خطاباتها غير متجانسة. وعلى هذا الأساس، يمكن أن نعتبر حركة النهضة من “المرجئة”، بالمعنى السياسي لا الكلامي، بمعنى أنّها ترجئ التصريح بمشروعها إلى الوقت المناسب، خاصة فيما يخصّ مسألة تطبيق الشريعة (انظر مقالنا:  الفصل الأوّل و”يمين البكوش…” ) وهو خيار يجلب غضب كلّ من السلفيّين (الّذين يرون أنّ النهضة تداهن العلمانيين) والعلمانيين (الّذين يرون أنّ النهضة نخطب ودّ السلفيين، كما يتجلّى ذلك خاصة من خلال التراخي في المعالجة الأمنيّة للعنف المنسوب إلى السلفيين)، ولكنّه يرضي ما بينهما ويبشّر بوسطيّة…وسطيّة لا تقوم على مشروع، بل تجمع بين المتناقضات دون سعي للتوفيق بينها…وسطيّة نفعيّة.

وخارج هذين القطبين، لا يبدو أنّ هناك مشروعا قادرا على جلب اهتمام الناخبين. وحتّى تحالف الأحزاب القوميّة واليساريّة (جبهة 14 جانفي) ورغم أنّه يرتكز على تقارب إيديولوجي، فإنّه يسير بخطى وئيدة جدّا ويبقى مهدّدا بحرب الزعامات، وإذ نسمع من بعض مناضلي أحزابه عبارات من طينة “النظام الكمبادوري” و “الرأسماليّة العميلة”، ندرك مدى انغماس هذه الأحزاب في أفكار عفّى عليها الزمان، وإذا أضفنا إلى ذلك عجزها عن الحصول على وزن معتبر في الانتخابات الفارطة فإنّ كلّ هذه المعطيات تنذر بأنّ هذا التحالف لن يكون سوى تجمّعا لأصفار.

قطبا الحياة السياسيّة دون مشروع…قد يكون ذلك مستساغا في بلدان عرفت منذ قرون طريقها إلى الديمقراطيّة (وفي عصر يقال عنه أنّه عصر ما بعد الإيديولوجيات). أمّا في بلد يعيش حالة “ثورة” ويمرّ بلحظة تأسيس، فذلك لا يعني سوى…التيه.

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights